كلمة البعث

جدل الوطني والقومي في الأحداث الراهنة

د. عبد اللطيف عمران

من الضروري ربط ما يجري في المنطقة بتطور الوعي الجمعي العربي، وارتباطه المستمر بتحديات مشتركة تنطلق من التلاحم العميق بين المصالح الوطنية وقضايا الأمة. ولنا في حركة التحرر العربية، وأناشيد الوطن والحرية والعروبة دروس ماتزال حاضرة لا تنسى. بل إن الظروف الراهنة تستدعي حضورها، لكن بصيغة العصر، والحدث الراهن.

فالعرب اليوم جميعاً، وعلى المستويات الشعبية والرسمية، يدفعون ضرائب سابقة ولاحقة لنتائج التجزئة والانقسام واستفحال التبعية وتعثّر التنمية، والرزوح تحت وهم الاستقلال السياسي والاقتصادي.. وهذا جميعه على صلة وثيقة برسوخٍ وتطورٍ سلبي لعوامل التوتر، والتدخل الأجنبي، والتناقض والاقتتال في المنطقة. وليس بخاف على أحد أن أهم أسباب هذا ضعف المجتمع الدولي وازدواجية المعايير، وتحدي قرارات الشرعية الدولية، وعرقلة قيام سلام عادل وشامل في المنطقة يعيد الأرض والحقوق الى أصحابها.

فتحقيق السلام والأمن، وعودة الأرض والحقوق، والانتصار لقضايا الأمة الكبرى يوفّر أهم أسباب الاستقرار والازدهار والتقدم، وهذه القضايا أصيلة الحضور في وجدان أجيال الأمة، ولن تغيب بمرور الزمن، وهي تتضافر مع ما تفرزه من تحديات لترتب أعباء جديدة أمام تطلعات الجماهير، والأحزاب، والمنظمات، والعمل العربي المشترك، ولتشكل حاجزاً قوياً يحول دون التحرر والبناء والتنمية والتعاون والتكامل الوطني والعربي، وهنا يحضر المشروع الصهيوني عاملاً أساسياً في استمرار التوتر والانقسام وتراجع التنمية والتطور، وتعثّر المشروع القومي العربي، وضياغ غير قليل من منجزات حركة التحرر العربية، والفكر والعمل الوطني والقومي في عدد من البلدان العربية.

فمن الواضح أن الجماهير العربية طالما كانت على استعداد للتضحية في سبيل مصالح الشعب وقضايا الأمة، في سبيل التحرير والتنمية والبناء، وقد حققت انتصارات وإنجازات لا تنسى، ولايزال حاضراً في الذاكرة أثر المسيرات الاحتجاجية الشعبية المنددة بالعدوان على العراق 2003، وعلى لبنان 2006 وعلى غزة 2008.

وما يشهده الشارع العربي اليوم في عدد من البلدان غير محصور بعجز النظام الرسمي عن تحسين الأوضاع المعيشية داخل الدولة الوطنية، أو بتعثر تجربة الإصلاح والديمقراطية، أو بغياب فاعلية البعد النظري -الايديولوجي- الذي يواكب، عادة، التعبئة وحشد الاحتجاجات الشعبية، وهو أيضاً غير مبني -كما يظن البعض- على الفصل بين قضايا الداخل والشأن الإقليمي.

صحيح أن هناك حضوراً مباشراً وملحّاً للمطالب المحلية، لكن هذا الحضور يربط بالنتيجة بين الأذى النفسي الذي يشعر أجيال اليوم بالعجز عن تحقيق الذات الوطنية، وإسهامها في التحرر الداخلي والعربي، مع استمرار الاحتلال وتحديات الهوية والانتماء ومصادرة الوعي والحقوق، فتكون عندئذ الحركة الشعبية الوطنية غير منقطعة عن قضايا الأمة الكبرى.

فليست القضية في الأقطار العربية التي تشهد انتفاضات شعبية شأناً مطلبياً خالصاً، كما يبدو للبعض، إنها صدام متعدد الجوانب بين عقليتين أهمهما: عقلية الشباب التي تتكون بسرعة وتجدد إثر العالم الافتراضي، والشبكات الإلكترونية، وعصر التسريبات الويكيليكسية التي انتهكت شرعية الأسرار، وأعادت السياسات إلى تقليديتها في التآمر المبطن، والخطط غير المعلنة حتى في الدول المتمتعة بحريات واسعة.. وهذا ما وسّع مساحة الإدراك لتحديات الهوية والانتماء، وحقوق الجماهير ومصالحها، والانتصار لقضايا الشعب والأمة، في أذهان أجيال اليوم، وما سيعزز المقاومة الوطنية ويدعم نهجها، وينشر ثقافتها ضد مختلف التحديات.

فلحركة الشارع العربي دائماً بعد وطني متصل بالقضايا العربية، ولاسيما القضية المركزية -فلسطين- وهذا ما يفسّر حالة القلق الشديد التي يعيشها الصهاينة اليوم.