كلمة البعث

المشروع العربي: الثورة والثورة المضادة

د. عبد اللطيف عمران

يقف الجميع الآن أمام منعطف كبير في التاريخ العربي المعاصر، وأمام تساؤلٍ قوي ومشروع حول أساليب ومضامين المناهج الوطنية العربية التربوية التي ستنقل للأجيال القادمة الوقائع التاريخية لحقيقة ما يجري من أحداث عربية راهنة، فماذا سيكتب المؤرّخ لأجيال الغد، وما هي التوجهات والتوجيهات التي ستحيط بكتابته في عصر التسريبات، والاضطراب، وكثرة التأويل والاجتهادات؟.
ففي زمن يتجدد فيه، طواعيةً، أو ضرورةً، المشروع القومي العربي، لم يعد بإمكان أي طرف أو بلد أو نظام الانسحاب من شرعية وجود الأمة العربية حقيقة حيّة، تجمع بين أبنائها عوامل مشتركة يزداد حضورها وتأثيرها: اللغة والثقافة والتاريخ والدين والآمال المشتركة.. وهي أمور طالما يلجأ الى استحضارها واستذكارها والاهتمام بشأنها الذين يتعرضون لأزمات داخلية أو خارجية.
واليوم يدخل المشروع العربي طوراً جديداً مهمّاً تصح تسميته بامتياز النهضة العربية الثانية، فقد طال الزمن الذي لم يعترف فيه الغرب بالبعد الديمقراطي وأثره وتجليه في الواقع العربي، بعد أن استقر في خطابه أن العرب والمسلمين لا يميلون -وراثياً- الى الديمقراطية، ويفرّون أمام طروحات العدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان.. في وقت يتناسى فيه الغرب آثاره التخريبية في الحياة العامة العربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولاسيما جرّاء معاناة العرب من سياسات ازدواجية المعايير، والتدخل الخارجي، ودعم المشروع الصهيوني، ودعم من يتفهم هذا ويكون عوناً للأجنبي ضد مصالح شعبه وأمته.
ومن الواضح أن السجالات السياسية والإعلامية والفكرية مستمرة الآن، وستستمر الى أجل غير معلوم بعد، وسيتوالى كثير من التأويلات والتعديلات في تجيير مفهوم الثورة، والثورة المضادة الى أطراف الحراك الشعبي العربي الراهن، بحيث تبقى أسبابه، ومسارات تطوره، ونتائجه، مثار خلاف أو اتفاق، بين أخذ ورد، نظراً لتحطّم الحياة السياسية والحزبية العربية الآن، هذا الحطام الذي لم يأت من فراغ، فقد طال الزمن الذي تعثّر فيه المشروع العربي، وضعفت خلاله مؤسسات العمل العربي المشترك، وارتهن مَنْ ارتهن لمخططات ضد إرادة ومصالح شعبه وأمته.
لذلك نحن اليوم حقيقة أمام لحظات حيّة متوهّجة من تاريخنا، ينهض خلالها فعل ثوري ديمقراطي من الصميم، يغادر فيها جماهير الأمة كابوس الخوف والرعب، لحظاتٍ لا تستدعي فيها انتفاضة الشعب دائماًً العنف والدم، فأجيال اليوم بدأت تمتلك باقتدار الأسلوب السلمي للإقناع والتغيير، الأسلوب الذي يضع خطاب السلطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ووظيفته التواصلية على المحك، وقيد المراجعة.
والسلطة المقصودة هي Power وليس Authority التي هي اليوم أمام قلق من الظواهر الشعبية التلقائية غير المنظّمة، والتي سرعان ما ستتخذ أشكالاً واعية ومنظمة تفرضها عليها التحديات المعاصرة، وأهمها التنمية، والتطور، والتحديث، والحقوق السياسية والاجتماعية.
هذه الأشكال ستعصف بخطاب السلطات المنهارة التي، لاشك، ستتهم حركة الجماهير بالتخريب، ثم بالمسؤولية عن الضرر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.. وصولاً الى الإرهاب، كما ستبدد اللبس القائم اليوم بين الثورة، والثورة المضادة، فأيهما يستهدف اغتيال الإنجازات، والقيم، ويعوّق مسيرة الانتقال الى الديمقراطية، وينشر الفوضى؟. إذ لا خارطة طريق واضحة لهذا الانتقال، وقد يطول وقت تتشكل فيه أحزاب، قادرة على صياغة تجربة برلمانية ناجحة، تؤدي الى الاستقرار السياسي والاجتماعي.
وليس من قلق، فلدى حركة التحرر العربية بتجاربها السابقة، والراهنة مظاهر مشجّعة، منذ الوصول السابق للأنظمة الوطنية الى الحكم، وما نجم عن هذا من نجاحات، وانتكاسات، وارتكاسات. فقد آن الأوان ليكون أمد النظرية السياسية التي تعتقد بأثر أمريكا والغرب وإسرائيل في سَوْق الأحداث العربية من بداياتها نحو نهاياتها، أمداً قصير الأجل. فالغرب وإسرائيل هم القلقون، لاشك، بعد نهاية وانفضاح معادلة التفهّم والتواطؤ الضمني معهم، أو تلفيق أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وهم قلقون أيضاً حول مع أي رأي عام عربي سيتعاملون، بعد دمار بعض «كنوزهم الاستراتيجية».
والحقيقة: إن رفض الارتهان للأجنبي، ومواجهة المشروع الصهيوني، ودعم المقاومة نهجاً وثقافة، والالتزام بمصالح الشعب وقضايا الأمة هي أبرز القواسم المشتركة التي تحرّك أجيال اليوم، وهي ثوابت سورية ومبادئها.