كلمة البعث

بين الثورة.. والدولة الوطنية

د. عبد اللطيف عمران

لم يكن بنيان الدولة الوطنية في عدد من البلدان العربية وطيد الأسس، فظلت هذه البلدان لفترات طويلة تعيش وهم الاستقلال السياسي والاقتصادي، لأن الغرب الاستعماري صادر منذ قرن من الزمن طموحات الجماهير العربية، وبدّد ثورتها وحقوقها وتطلعاتها منذ أن انقضّ على الثورة العربية باتفاقية سايكس بيكو، وبدعم المشروع الصهيوني.

ولم ينقطع الغرب الاستعماري في أي لحظة من التاريخ الحديث والمعاصر عن دعم مشروعه المناهض للدولة الوطنية وللمشروع القومي العربي، واستمر في سياسة المراوغة والتضليل والهيمنة، وازدواجية المعايير،  يعطي القليل طِعماً من جهة، ليستلب الحقوق والإرادة والوعي من جهة أخرى.

فقد نقل عن بعض المسؤولين العرب قوله إن أوباما طلب منا أن نصعد معه الى الشجرة، وحين صعدنا نزل أوباما، وسحب السلّم أيضاً. هذا الصعود والنزول صار مألوفاً في علاقة العرب بالغرب.

واليوم يشهد الواقع العربي أسلوباً جديداً من التدخل الأجنبي بصيغة استعمارية متجددة ومناهضة للمصالح والحقوق الوطنية والقومية، مستغِلاً ومصِادراً حركة الشارع العربي بهدف تعزيز الفرقة والانقسام والاقتتال الداخلي، ودعم المشروع الصهيوني، وضرب روح المقاومة، وتهميش نهجها وثقافتها، عن طريق خلق بؤر لا نوعية لتصديع البنيان الداخلي، وتقويض ما استقر من بنيان للدولة الوطنية، وإضعاف الإرادة الشعبية القادرة على الوقوف ضد الاستعمار وحلفائه وأدواته ومشاريعه.

وآية هذا واضحة في عدد من المشاهد الراهنة التي يعيشها العرب في كافة بلدانهم وأهمها المناخ الاحتفالي المهيب الذي شهده مؤخراً الكونغرس الأمريكي من تصفيق ووقوف إجلالاً وتأييداً لطروحات سفاح العصر نتنياهو كل دقيقة ونصف من حديثه الذي ضرب خلاله عرض الحائط بجميع قرارات الشرعية الدولية، وبأسس محادثات السلام، وبحقوق العرب المشروعة.

وليس هذا بالغريب، بل هو متوقع، لأن حضور المجتمع الدولي، بمؤسساته وهيئاته ومنظماته وقراراته في منطقتنا كان في أغلب الأحيان مناهضاً للحق العربي، ومصادراً لإرادة الشعب وتطلعاته. ومن هذا القبيل يأتي الحضور العاصف للمشهد الاحتجاجي العربي ليحل الاهتمام به بديلاً عن دعم المقاومة الوطنية للمشروع الاستعماري والصهيوني، فيأتي الحضور الغربي تدويلاً وتدخلاً ودعماً للانقسام الداخلي، فيقرر الغرب دعم «الثورات العربية» بعشرين مليار دولار دعمَ مصادرةٍ وابتزاز وتشويه، يهدف من خلاله الى تقويض جديد لتطلعات الجماهير العربية الى إعادة بناء الدولة الوطنية وهذا ما أشار إليه مؤخراً الصحفي الأمريكي توماس فريدمان.

إن الغرب لا يريد بناء الدولة الوطنية الديمقراطية العربية، لأن الديمقراطية تتعزز أولاً بإحلال السلام الذي  يضمن الأمن والاستقرار والحرية، وتنتفي معه الحاجة الى القوة العسكرية اللازمة لاحتلال الأرض والحقوق والإرادة، ولمواجهة هذه القوة.

ولذلك يغدو الواقع العربي بحاجة الى إعادة ترتيب في مسائل الوعي والإرادة والانتماء أمام عدد من المشاريع الهدّامة، والتي تتطلب تمييزاً بين الثورة والثورة المضادة، بين الحرية الفردية والديمقراطية الوطنية، بين التغيير القائم على الوفاق الوطني واستدعاء التدخل الأجنبي، لأن التغيير أو التحوّل المنشود في واقعنا عملية معقدة، ليست باليسيرة تصطدم بكثير من التحديات الواقعية التي يجب التغلب عليها بهدوء، وحوار وطني وأخلاقي يعتمد أساساً على دولة وطنية ذات نظام سياسي قوي بمشروعه ومشروعيته، قادر على إصدار القرارات الإصلاحية، وعلى تنفيذها، وتحمّل مسؤوليتها، وعلى الالتزام بالدفاع عن مصالح الشعب وحقوق الأمة، انطلاقاً من نهج إصلاحي ديمقراطي وطني يشمل جميع الفئات وميادين الحياة العامة والخاصة على غرار ما تشهده سورية اليوم.

فلننتصر سويةً وطنياًً وأخلاقياً لمشروع قيادتنا السياسية في الإصلاح متعدد الجوانب، ولنعزز وحدتنا الوطنية، ووعينا وانتماءنا، فسورية شعباً وقيادة طالما دعمت الحوار الداخلي والوفاق الوطني ووحدة الأرض والهوية والانتماء والسيادة في جميع البلدان العربية التي تعرضت لتحديات في هذه القضايا، كما دعمت علاقات التعاون والتكامل والصداقة بين الشعوب. وهي قادرة اليوم على تجاوز مختلف التحديات، وعلى خدمة مصالح شعبها وحقوق أمتها.