كلمة البعث

في “في” المــــادة الثامــنة

د. عبد اللطيف عمران

عرفت سورية في السبعينيات أساتذة كباراً في القانون، ومشرّعين أكفياء، استجابوا في صياغة دستور البلاد لمصالح الشعب وقضايا الأمة ولحركة الواقع، فأسهم إقرار الدستور في جلستي مجلس الشعب في 30/1/1973 و20/2/1973 في قيام الدولة الوطنية، دولة القانون والمؤسسات والتعددية الحزبية والاقتصادية. وترسيخاً للديمقراطية الشعبية لم يعتبر الدستور نافذاً إلا بنتيجة الاستفتاء الشعبي في 13/3/1973.

واليوم تمضي في سورية مسيرة إصلاح وتغيير وتحوّل متعددة الجوانب عمادها الحوار الوطني الديمقراطي الذي يؤكد حق الاختلاف، وشرعية الآخر ومشروعه تحت سقف المصلحة الوطنية. وبانتظار ما ستسفر عنه نتائج الحوار، والذي يظن البعض أن عدداً من إشكالاته ستدور في فلك المادة الثامنة من الدستور، ظنّاً يقترن بأن هذه المادة أساس البعث فكراً وتنظيماً، وهذا ما يخالف الحقيقة والواقع، فستبقى مصلحة الشعب والوطن هي الأهم اليوم ودائماً.

لقد أسفر نجاح ثورة الثامن من آذار 1963 عن «قيادة الحزب للدولة والمجتمع، وصارت السلطة أداة في خدمة النضال لتحقيق بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد»، ومع حركة 23 شباط 1966 ازداد حضور وفاعلية حرف الجر «لـ» في «قيادة الحزب للدولة والمجتمع»، وكان الحزب بين 63-1973 حاكماً وقائداً مع غياب نص دستوري.

ومع قيام الحركة التصحيحية تم العمل مباشرة لتلبية تطلعات المجتمع السوري، وتحويل عمل السلطة الى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الشعبية، فأنجز تلاحم الشعب والقيادة مؤسسات هامة منها مجلس الشعب، والإدارة المحلية، والمنظمات والنقابات، والتعددية الحزبية والاقتصادية…

وكان إنجاز الدستور الدائم للبلاد ضرورة وطنية ملحة ومهمة أتت بعد فراغ، وتحققت رديفاً لحشد كافة الطاقات الوطنية والعربية للتحضير لإنجازات البناء والتحرير في حرب تشرين 1973.

وقد استند الدستور في مقدمته الى منطلقات رئيسية منها أن الثورة العربية الشاملة ضرورة لتحقيق أهداف الأمة، والوحدة العربية تصون حقوق العرب ضد الأخطار التي تهددهم، والحرية والديمقراطية الشعبية حق مقدس، وحرية الوطن لا يصونها إلا المواطنون الأحرار. فنصت المادة (1) من الدستور على أن سورية دولة ديمقراطية شعبية، والمادة (10) على أن مجالس الشعب مؤسسات منتخبة ديمقراطياً، وصار البعث بموجب المادة (8) «الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية».

ومن المعروف أن إقرار الدستور أتى بعد توقيع ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية في 7/3/1974 وبموجب المادة (8) لم يعد الحزب قائداً للدولة والمجتمع، فظهرت حصافة المشرّع في تخيّر الحرف «في» بدلاً من «لـ»، وفي تقديم لفظة المجتمع على الدولة إشارة الى الدولة الوطنية، وللحرف «في» عشرة معانٍ أشهرها ما يفيد الدلالة الزمانية والمكانية، والمعيّة، والتعليل.

وهذا يعني أن البعث ليس وحيداً في الساحة، ولا حاكماً، ولا قائداً حصرياً، لكن قدره بتاريخه النضالي العريق، وبريادته للتصدي لمفرزات الرجعية والتخلف والتجزئة والاستعمار، أن يتحمل ما يتحمله، وهو لن يهرب من قدره مهما كانت النتائج… فهو فكر ونظرية وهدف، قبل أن يكون تنظيماً، أو قائداً، وقبل أن تجعل منه متطلبات الواقع قائداً في المجتمع والدولة والسلطة.

وإذا كانت المادة (8) تشكل امتيازاً دستورياً كما يرى البعض، فإنها في الواقع عبء ثقيل في تاريخ البعث، لأننا نعرف المفرزات السلبية للسلطة على جميع الأحزاب، وعلى حركات التحرر التي وصلت الى الحكم، تلك المفرزات التي تجعل التنظيم في أغلب الأحيان فضفاضاً، ومشغولاً بقضايا إجرائية كثيرة على حساب تطوير وحدته الفكرية والتنظيمية، وبالمقابل يجب ألاّ ننسى أن هذه المادة جاءت حصيلة تضحيات جسام قدّمها البعثيون الأوائل في ظروف صعبة.

وكان أيضاً لاستمرار التحديات وتنوعها أثر في افتقار الحزب للمراجعة النقدية المطلوبة في وضع دولي جديد تضاءل فيه دور الأحزاب العقائدية مع تقدم البراغماتية على المسرح الدولي.

ومن جهة أخرى كان لانشغال قيادة الحزب بضرورات وطنية وقومية واقعية أثر على بنيته، ولاسيما حين أتى التوسّع التنظيمي رديفاً لتعزيز الوحدة الوطنية والتعددية الحزبية والاقتصادية، كما كان هناك أثر آخر مهم لظاهرة ضآلة التنوع في النشاط السياسي والحزبي في سورية بسبب التصدي لتحديات كبيرة مشتركة لا تختلف فيها الأحزاب الوطنية مثل مخاطر الصهيونية والنيوكولونيالية والعدوان على العراق ولبنان وغزة… فكان لهذا أثر سلبي من بين عدة آثار في غياب التباين والاختلاف الذي يغني الحياة السياسية والحزبية.

واليوم ندرك جميعاً أن الإصلاحات الراهنة ليست تراجعاً، وقد طرحت بعضها قيادة الحزب في 2005، بعيداً عن مفرزات الوضع القائم اليوم، قناعةً منها بأن هذه الإصلاحات تدعم صمود سورية دائماً، وتحقق مصالح شعبها وأمتها، فالبعث قضية وطنية وقومية، والوطن عنده هو الأهم، في زمن لا تخفى فيه مخاطر ولائم صنّاع الخرائط لوضع جيوسياسي جديد، تغيب فيه المشكلة الرئيسية «المشروع الصهيوني الاستعماري» ضد أمن المنطقة وحقوقها وحرية مواطنيها وأوطانها.

ولنا ثقة بوعي جماهير شعبنا لهذه الحقائق، ولمخاطر الجرائم التي تحوّل أصحابها من عصابات الى تنظيمات مسلحة، وكلّنا تفاؤل بقدرة شعب سورية على إنجاز مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية التي ستعزز دور سورية المعهود.