كلمة البعث

البعث: بين المجتمع والدولة والسلطة

د. عبد اللطيف عمران

لم يعد قليلاً عدد البعثيين الذين لا يساورهم قلق من الحوار حول مآل المادة الثامنة من الدستور ومايتصل بها، ومن الفصل بين الحزب والسلطة. لكن الصلة مع الشعب والدولة الوطنية مسألة أخرى.

فالبعث في الأساس فكر ومبدأ، ثم حركة، فتنظيم، فحزب، وهو ليس في المنطلق سلطة، لكن طبيعة النضال الجماهيري، والحراك الاجتماعي والسياسي في ظروف الأربعينيات والخمسينيات والستينيات هي التي مكّنت كوادر الحزب وتنظيمه مما وصل إليه وأنجزه في 8 آذار 1963 مستفيداً – وهذا حقه كما كان حقاً لغيره – من طبيعة المرحلة.

ويتعرض البعث الآن لنقد غير عادل، يخلط أصحابه بين الحزب كنظرية ومبادئ، وبين مؤسساته وكوادره، عن طريق تجاهل مقصود لدوره المشرّف في الحركة الوطنية العربية، ولموقفه الواضح من الرجعية والتخلف والاستعمار والتدخل الأجنبي. هذا التجاهل يستهدف مسألتين أساسيتين: السلطة والدولة، ولا ينفصل عن دور سورية الشعب والتاريخ.

والواقع والحقيقة يفرضان مناقشة مفهوم علاقة السلطة بالدولة، فسورية تعيشه اليوم سجالاً نوعياً، هذا المفهوم الغائب ككيان في تاريخ الشعوب العربية والإسلامية التي طال عهدها بالخلافة والإمارة والسلطنة وصولاً الى الاستعمار الغربي، ووهم الاستقلال السياسي العربي الراهن.

وعمر هذا المفهوم ثلاثة قرون إذ بدأ متجلياً بوضوح مع هوبز، ولوك، وروسو… ثم تطور مفهوم الدولة الحديثة تطوراً مثقلاً بتركات متنوعة وعديدة أهمها: مايتصل بهدفها إلى ترسيخ سلطتها المركزية المقترنة بسيادتها وقوتها، والى تحكمها بهذه السلطة لخدمة المواطنين.. وهذان هدفان متناقضان أحياناً.. إذ تاريخياً ليست الصلة بين السلطة والإكراه بعيدة، فأهم النظم الديمقراطية المعاصرة التي تحكم من خلال غلبة حزب تواجه مشكلة مزدوجة لأن الأقلية أولاً  قد تكون 49٪ فهي مكرَهة لاشك، وثانياً غالباً ماتقع الأغلبية تحت وطأة جماعات الضغط – اللوبي – كما هو الحال في الولايات المتحدة.

إذاً نظرياً مامن دولة، أو سلطة عادلة، لأن الدولة تنشأ عن غلبة أو إكراه مادي أو معنوي. وهذا لا ينقض ضرورة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التي تنشأ عن عقد وطني اجتماعي بين أفراد المجتمع ومؤسساته، عقد مشروط بقيام السلطة والدولة بحماية مصالح الشعب، وحقوق وحريات المواطنين.

هذه المفهومات لم تغب عن تفكير رواد البعث الأوائل، وعن كوادره اليوم التي انخرطت في الحياة السياسية والأكاديمية والمهنية.. وسجلت حضوراً وطنياً وأخلاقياً. وهي تعرف اليوم أن ماتعيشه المجتمعات العربية، على مستوى الشعب والدولة والسلطة، وثيق الصلة بطروحات الشرق الأوسط الجديد، وبنظرية «الفوضى الخلاقة» التي تتصل برؤية هوبز حول «حياة الفوضى في غياب الدولة» وضرورة الانتقال من حالة حرب «الكل ضد الكل»، الى تعاقد «الكل مع الكل»، بعد مرورهم بتجربة الفوضى عن طريق سلطة بواسطة عقد تنازل.

وسيتحكّم الغرب الجيوسياسي بهذا العقد، وبهذه السلطة. لذلك يتم العمل الآن عمداً على إعادة بناء الدولة العربية الحديثة على أنقاض وإرث الحروب الأهلية. وواقع العرب – المجتمع والدولة- يسهّل هذا، بسبب تفاعل التدخلات الخارجية.

والبعث على مستوى الفكر والممارسة منخرط في سجالات وتساؤلات وقرارات تتصل بدور السلطة، وبمفهوم الدولة، وبمصالح الشعب والأمة، وله تجربة غنية في هذا المجال، تبرز بعض ملامحها مع نجاح ثورة 8 آذار 1963، والتي كانت رداً على الانفصال، ومنحت الحزب حضوراً في المجتمع والدولة، ازداد هذا الحضور – بغض النظر عن تقييمه – في حركة 23 شباط 1966، واتخذ طابعاً آخر رداً على هزيمة حزيران 1967، وقدّمت الحركة التصحيحية 1970 تصوراً وبنية جديدة في هذا المجال من خلال بناء المؤسسات الديمقراطية الشعبية، والتعددية الحزبية والاقتصادية..

وقد طُرحت صيغة علاقة الحزب بالسلطة بقوة بعيد المؤتمر القطري التاسع للحزب 2000، وأُعيد الطرح بعد المؤتمر العاشر 2005 حتى صدر قرار قيادة الحزب /140/تاريخ 16/5/2006، وهو قرار مهم لانطلاقه في جميع مواده من الاعتبارات الوطنية أولاً، وللأسف لم يأخذ لا القرار، ولا البعث حقهما من النظرة الموضوعية، والاهتمام وخلاصة ماورد فيه:

> تتمثل مسؤولية الحزب في التوجيه والإشراف والرقابة، بما ينسجم مع برامجه وأهدافه ومصالح الشعب والوطن. وفي عدم تدخل الموسسات الحزبية والحزبيين في الأعمال اليومية للسلطة وأمورها التفصيلية.

> ترشح المؤسسات الحزبية المدراء مع التأكيد عن توافر الكفاءة والخبرة والنزاهة. بغض النظر عن انتمائهم السياسي.

ومع هذا فالبعث بحاجة الى مراجعة كافية لمشروعه الفكري والتنظيمي، ولبرنامجه الوطني والعروبي، ولصلته بالمجتمع وبالسلطة والدولة.

وماتتعرض له سورية اليوم ليس المقصود به البعث وحده، بل تقويض سورية الدولة والمجتمع والشعب، تقويض الحامل التاريخي الأبرز للمشروع العروبي الوطني الديمقراطي المناهض للرجعية والتخلف والمركزية الغربية.

ولن تكون السلطة امتيازاً يتمسك به البعث، بقدر ماهي عبء وإشكال وواجب، وبمطلق الأحوال لن ينسحب الحزب من مهمته الوطنية والقومية، وهو لايزال قادراً على الاضطلاع بدور فاعل في برنامج الإصلاح الشامل بقيادة الرئيس الأسد.