كلمة البعث

نحو متغير عالمي في مفهوم الأوطان والسلطات

د. عبد اللطيف عمران

يتميّز المشهد الاحتجاجي العربي الراهن بالسرعة والمفاجأة، وأيضاً بالتباين والاختلاف في الهدف والأدوات والنتائج، وهو ليس ظاهرة منقطعة عمّا يعيشه عالم اليوم أجمع، إلا أن النزوع نحو التغيير والاحتجاج عند الآخر يرتبط بتطورات ومتغيرات داخلية على الأغلب، بينما الأمر مختلف في الواقع العربي حيث يختلط العامل الداخلي بالخارجي، وفي بعض البلدان العربية يطغى أثر العامل الخارجي ولا شك.

فالواقع الذي تعيشه دول أوروبا الغربية ولا سيما بعد توسيع الاتحاد الأوروبي هو أزمة حقيقية في اليونان وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا… وله منعكسات داخلية وإقليمية ودولية.

وكذلك الأمر في الولايات المتحدة فليس الواقع سكونياً، فقد حذّر الأسبوع الأسبق بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في حديث تلفزيوني تحذيراً واقعياً من «اقتراب الولايات المتحدة من كارثة… وأظن أننا سننزلق إلى صراعات اجتماعية وعداوات حادة، وإلى بعض أشكال التطرّف». كما أشار عدد من المحللين الأمريكيين إلى تقدم وتطور الأسس العقائدية لنهوض جديد لليسار في وعي الأمريكيين، وإلى «فجر جديد لليسار الأمريكي»، ولا سيما أن هناك شبه إجماع على أن أمريكا تتدهور، وستشهد، إضافة إلى منعكسات الحروب الدموية العابرة، انتكاسة اقتصادية كبرى، ستغيّر في مفاهيم الشعب الأمريكي ومعتقداته.

كما حذّر مؤخراً نعوم تشومسكي المفكر الأمريكي في مجلة التايم من تسونامي قادم على إسرائيل يغيّر في مرتكزاتها وبنيتها ووضعها الإقليمي والدولي «بسبب انتهاكها الدائم للقانون الدولي والشرعية الدولية، وسياستها الإجرامية المستمرة، وحصارها وعدوانها الإجرامي…» وستحدث تطورات كبيرة في هذا الجانب مع توسّع الاعتراف الدولي بحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية ولاسيما بعد أيلول القادم.

لكن المشكلة في البلدان العربية تأخذ طابعاً آخر في ظلال تضافر الجهود، وتبعثرها على إرساء نظام إقليمي جديد يتشكّل في معمعة إحياء الهويات والعصبيات…. الوطنية والقومية والعابرة، لإظهار ألوان الفسيفساء الهادئة والرائعة سابقاً، بشكل جديد فاقع قائم على التناحر والقتال والدمار… يؤدي إلى بلقنة جديدة يزداد فيها ويضطرب التنسيق والتشابك والاختلاف بين الداخل والخارج، لينتهي إلى صراعات ممتدة غير منضبطة، لا نوعية، فوضوية بعيدة عن وضوح في الوعي والهدف والأسلوب، تتغير معها مفاهيم وبنى الأوطان والدول والسلطات.

وفي هذا السياق حذّرت مجلة الأيكونوميست في عددها الأخير من أن السيناريو الأهم للفوضى في المنطقة سينتهي إلى “حصاد ديمقراطي هزيل”، وإلى مشهد سياسي تغلب فيه المشاحنات بين مختلف القوى. وسيبدأ العد العكسي للتغيير ليس في حوض المتوسط، بل في الخليج العربي أيضاً.

هذا الواقع المفاجىء والراهن في مشهده الاحتجاجي المتباين وثيق الصلة بإيديولوجيات «نهاية التاريخ» والنظام العالمي الجديد، والشرق الأوسط الجديد، والفوضى الخلاقة، وهو يتطلب وعياً طليعياً ونخبوياً، وشعبياً ورسمياً، عربياً، وتغييراً سريعاً مدروساً للاستراتيجيات والعلاقات، والعقائد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ينطلق من الضرورة الوطنية والقومية، ويبتعد عن إملاء الخارج وتدخلاته ومصالحه.. وقد انتصرت الجماهير، والطليعة العربية لقضايا الشعب والأمة في تاريخها الحديث في هكذا متغيرات، وسجلت نجاحات وتحولات مشهودة.

ولدى السوريين سجل حافل في منجزات الوعي والالتزام الوطني والعروبي، فقد حققوا نجاحات كبرى في الحفاظ على الأرض والهوية والسيادة، وانتقلوا بوحدتهم الوطنية، وبوعيهم الراسخ من مخططات «الصراع على سورية» إلى قوة الحضور والفعل في القضايا العربية والإقليمية والدولية، فأحبطوا هذه المخططات بتلاحم قواهم السياسية والاجتماعية، وكانوا وسيبقون روّاد الوحدة الوطنية، والشعور القومي، وهم وكما أحبطوا الصراع على سورية، سيحبطون الصراع في سورية، وستفشل وسائل وأهداف المخربين والمأجورين.

ولا قلق، فلشعب سورية ولقيادتها السياسية وقواها الوطنية التقدمية تجربة مشهودة في الحفاظ على الثوابت والمبادىء والمعتقدات، وفي وعي البرنامج الإصلاحي والأخذ به لمصلحة حقيقية للشعب والوطن والدولة.