كلمة البعث

الصوت والصدى: صراخ الســلطـان الجــوّال

د. عبد اللطيف عمران

تتشابك اليوم في المنطقة المصالح والبرامج والإيديولوجيات على أساس من السرعة والانفعال، والابتعاد عن الدقة والرويّة. فيتم إضرام حرب المعتقدات والأطماع، وإرهاق الشعوب والمجتمعات والدول.

إنها الفوضى التي سيعجز المجتمع الدولي عن التحكم بمساراتها، في ظل نزوع غربي جيوسياسي مرهق ودامٍ، يخطئ من يظن أنه قادر خلاله على الاستفادة من العبث والدمار، ومن حطام الدولة الوطنية.

في هذا الوضع المربك، ينبثق السيد أردوغان في موقف صوتي صارخ متناقض المنطلقات والأهداف، ضائع بين البراغماتية والإيديولوجيا، محاولاً كسب العرب والغرب، العلمانيين والإسلاميين، الشارع والسلطة،.. فيقع في شرك استثمار اعتباطي لأوراق متداخلة ومتداولة منذ زمن بعيد، ولن يستطيع بالمحصلة استحواذ واحدة منها.

لقد أحسن الرجل بدايةً استثمار موقفه الإيجابي مع بيريز في مؤتمر دافوس 30/1/2009، وكذلك في العدوان الاسرائيلي على قافلة الحرية في 31/5/2010 وأراد أن يطوّر هذا الاستثمار في كلمته بعد فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فألقى كلمة سلطانية إخوانية أثارت حفيظة الإسلام والغرب. وبعدها قصد الجامعة العربية في 13/9/2011 التي فتحت له أبوابها المنهارة بعد أن صار لها تاريخ مؤلم ومعروف في  الانحياز لضرب المجتمع والدولة والشعب العربي، قصدها بنزعة رسولية صارخاً واعظاً محذّراً ظناً منه أن سامعيه شعبياً ورسمياً في القاهرة وليبيا وتونس ينتظرونه بلهفة على أعقاب كاميرون وساركوزي.

لقد ضاع السلطان في غياهب التصعيد ضد اسرائيل، وهو ينفذ في المنطقة سياسة غربية، ونسي أن المرجعية واحدة، كما زاد من ضياعه التصعيد ضد سورية في الوقت نفسه، لأن سورية تدعم المقاومة الوطنية الإسلامية ضد اسرائيل. وهو لايستطيع مغادرة منطلقه الإخواني الإسلامي، وكأنه بالمحصلة ينطلق من موقف وظيفي يخدّم بالنتيجة المرجعية الواحدة بأجندتها الغربية الاسرائيلية ضد العروبة والإسلام.

فمنطلقه الإخواني لايخوّله التصالح مع العلمانيين، ولا مع نزوع تركيا للانضمام الى الاتحاد الأوروبي، ولا مع دوره في حلف الناتو، وسماحه باستباحة الحلف لبلاده بالرادار.

كما أنه ينتصر بالصراخ لديمقراطية الشعوب، ويقصف كُرد بلاده بالطائرات شر قصف، فيقع في ازدواجية الموقف إزاء ماتقترفه العصابات الإرهابية المسلحة في سورية، وهو يرى بأم عينيه تقطيع الجثث، وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، ويعرف من خبرة أن البرنامج الإصلاحي لاينجز بين عشية وضحاها، كما يعرف أن التغيير في تونس ومصر وليبيا لم ينجز بالحوار الديمقراطي، ولا بالانتخابات، فماتزال كافة الاحتمالات مفتوحة، ولا تفاؤل أكيداً حاضر.

ولابد أن الرجل قرأ بدقة كيف أخرج الغربيون الأتراك من المنطقة قبل قرن من الزمن، وكيف أجهزوا على السلطنة، وتخابثوا على العرب والترك في اتفاقية سايكس بيكو، فيعمل من حيث يدري، أو لا يدري لمناصرتهم وظيفياً في رعاية  أنظمة عربية إسلامية متصالحة مع الغرب الطامع الذي لم يسمع صراخه متوسلاً الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، كما يعرف أن المؤرخ الحديث لايزال على تباين في الموقف من «الفتح»، أو «الاحتلال»، أو «الاستعمار» العثماني للوطن العربي… إنها إشكالية لا يُحسد السلطان عليها.

وحتى آذار 2011 كان على الرجل أن يكون طرفاً فاعلاً في تنفيذ اتفاقيات المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي السوري التركي، لكنه استفاق صباحاً وكأن بنية النظام العام السوري شعبياً ورسمياً انقلبت مفاجأة أمام ناظريه، فنسي الإنجازات الإيجابية والرائعة التي حققها الشعبان وقيادتاهما السياسية بعد توقيع اتفاقية أضنة 1998، وأسرع إلى مصر ظنّاً منه أن الوضع الرسمي والشعبي مؤهّل ليوقّع اتفاقيات المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي المصري التركي.

إنه من الصعب جداً عليه الجمع بين المتناقضات التي يعيشها العرب والغرب والعلمانيون والإخوان.. فهذا لن يؤهله أبداً ليكون فاعلاً فيما يظنه من فراغ استراتيجي قائم، أو تبعثر في الاصطفاف السياسي والاقتصادي، في معترك صعب تتنافس فيه القوى الإقليمية والدولية، وهو يرى بدقة الحضور الفاقع والأناني للغرب. هذا الحضور الذي لا نتمنى لتركيا الشعب الصديق أن تعود معه بخفّي حنين، وقد أضرّت بنفسها وبجيرانها.

مؤلم هذا الانقلاب على ما أنجزه البلدان لدعم المصالح الوطنية المشتركة في سياق التكامل الإقليمي، والتعاون لترسيخ الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة، ونتمنى ألاّ تضيع تركيا عن دورها المأمول، فسورية ماتزال وستبقى قوية بمبادئها وثوابتها وتلاحمها الشعبي والرسمي.