كلمة البعث

ما بين الديمقراطية.. و«الثورة»

د. عبد اللطيف عمران

مايزال مفهوم الثورة واحداً من القضايا الكثيرة التي تركها الفكر القومي تترنح وتضطرب، فلم ينصرف لمعالجته بدقة ووضوح، ولهذا ظروف موضوعية وذاتية، منها ما يتصل بحركة التحرر العربية، وتوزّعها بين نضال حركات التحرّر الوطني، والنضال لاستقلال القرار السياسي فيما بعد.

وسارت الأمور على ما كانت عليه بين نظرية وفعل حتى اليوم ليتم الانقضاض على هذا المفهوم من خلال استغلاله ومصادرته من قبل الذين بدأ نضال الثورات العربية ضدهم وهم التُرك والغرب، لتعود نخبٌ من هؤلاء إلى استلاب جديد للوعي والمصالح والانتماء، يتم العبث خلاله بالهوية والإرادة والقرار، تشويهاً للثورة وللحرية والديمقراطية، التي هي ضرورات داخلية مطلقة.

فتم التغلغل في بنية المجتمع والدولة الوطنية العربية، وغرسَ الإعلام المأجور وهمَ المشابهة لما سُمّي «بالثورة» وعدوى انتقالها، وانتقال تنازل رأس الدولة أمام حراك يخلط الديني بالدنيوي، والداخلي بالخارجي، والإسلام السياسي بالتاريخي، بما يفضي إلى جموع تخرج بالبعض عن احترام الدولة والمجتمع إلى العنف والعبث والتوحّش، دون أي مظهر حضاري، ويقترن هذا بجهود عدد كبير من المرتزقة والأُجراء الذين يعيشون في حواضر الغرب، تسعفهم الوسائل الإعلامية المستحدثة، وشراء الذمم والضمائر، تمادياً في الافتراء والفبركة والخدع البصرية.

والواقع أن الثورات لم تأتِ بالديمقراطية، ولا بالحرية، وكثير منها، بل أغلبها انتهى بإسقاط مطلب الديمقراطية، وأفرز إيديولوجيات ونظماً بعيدة عن التعددية، والانتخابات الحرّة…، فالثورات في أوروبا، ولاسيما الفرنسية والروسية لم تحقق مصالح الشعب إلا بالتدرّج، بل إن كثيراً من الثورات في العالم نجم عنه مراهقة ثورية مربكة فيما بعد.

واليوم يعيش العرب، والعالم كله أزمة حكم وسلطة، وأزمة مجتمع ديمقراطي، يعالجها الغرب بشروطه الداخلية، بينما يقع العرب في سعيهم لإعادة بناء الدولة الوطنية تحت وطأة الغرب والناتو تحديداً، ولا تنبع دوافعهم من ضرورات ومصالح داخلية وطنية محضة، بل هي في أغلب الأحيان متصلة بمعارضة عاجزة عن الحوار الوطني والتفاوض الداخلي، وعن التضحية والثبات على الموقف، فتهرب طواعيةً إلى أكناف الغرب لتثقل نفسها بأزمتين: أزمة الوطن، وأزمة الارتباط بأجندة الغرب المأزوم أصلاً. لتقع في النهاية فريسة ارتباطها بالخارج. إنه مأزق تاريخي للمعارضة العربية. يحرمها من حرية القرار، ومن روح الممارسة الديمقراطية، فتعيش في تشتت الشعارات، وتراشق الاتهامات.

إن إعادة بناء الدولة الوطنية، في الظروف التي تعيشها المنطقة، بحاجة إلى تعديلات جوهرية في بنية النظام السياسي، ترافقها تعديلات في بنية المجتمع ومؤسساته الحزبية والثقافية والاقتصادية، تُنجَز عن طريق الحوار والممارسة الديمقراطية، وهذا لا يمكن تحقيقه بسرعة، وتحت ضغط داخلي مسلّح، وتدخّل خارجي مغرض، كما أن الانتقال من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية يحتاج إلى هدوء ورويّة واستقرار، وإلى الحذر من أن ما يسمى مواربةً بالتغيير الثوري الديمقراطي – تحت وطأة المجتمع الدولي والناتو وازدواجية المعايير – لن ينجز تحّولاً ديمقراطياً يخدم مصالح الشعب وقضايا الأمة في زمنٍ يتجه فيه العالم إلى ما بعد الرأسمالية، وما بعد الديمقراطية. زمنٍ سيؤدّي فيه التوازن، أو الخلل في العلاقة بين الدولة والسوق والمجتمع إلى نظام اقتصادي جديد، وإلى نظام سياسي جديد أيضاً.

وهذا ما تدركه جيداً القيادة السياسية في سورية، وهي تدعو وتعمل على توسيع دائرة الحوار والمشاركة، من خلال مراجعتها، وعملها على إعادة بناء المؤسسات الدستورية، في سياق مشروع الإصلاح الوطني الديمقراطي الشامل، اقتراناً بالانتخاب العام وبالتعددية، وبما سيفضي إلى ممارسة حرية واعية وملتزمة، تنهزم خلالها الارتباطات بين العصابات الإرهابية، والمعارضة غير الوطنية، وتدخلات الخارج.