كلمة البعث

جمعة… الخنفشار

د. عبد اللطيف عمران

لا يزال السؤال قائماً حول أسباب فشل حركة التحرر الوطني العربي في ربط نجاحها السياسي وصولاً إلى الاستقلال، بالتحرر الفكري والاجتماعي.

فها هم العرب وبعد مضي أكثر من قرن على نهضتهم وانطلاقتهم نحو التحرر السياسي والاجتماعي والفكري، وبروز اتجاه قوي واضح في الماضي نحو الدولة المدنية، ونحو العلم والانفتاح والتسامح، يعودون اليوم قروناً إلى الوراء، وإلى ما هو مؤلم فيه.

لقد أنجز الفكر النهضوي العربي بأعلامه من المسلمين والمسيحيين، فيما مضى خطوات متقدمة، حققت «الثورات» الحقيقية خلالها إنجازات كبرى، على نحو ما نجد في ثورة سعد زغلول بأبعادها التحررية الوطنية والعربية والإسلامية، والتي انطلق فيها من أن الدين لله والوطن للجميع.. فقُرعت لوفاته أجراس الكنائس في لبنان.

لكننا اليوم نشهد نكوصاً حاداً في الوعي والالتزام، ينطلق من الفشل في علمنة المجتمع، ومن إضفاء معانٍ سلبية على العلمية، والثورية، والدين، والحرية، ما أدى إلى انفلات الأجيال وضياع الحدود والضوابط المجدية أمامها، فأربكت بـ«الثورة الرقمية» الأحزاب والسلطات والإيديولوجيات، وهذا ما سيرتّب على الأحزاب العربية والاتحادات والمؤسسات تساؤلات كبرى ليست في صالحها.

ويتساءل المرء كل أسبوع عن ظواهر غير منضبطة يشهدها الشارع العربي في مغربه ومشرقه، يُستغل خلالها يوم الجمعة – برمزه التاريخي المحترم – فتُطلق عليه مسميات متتالية لا ناظم لها، ولا وعي فيها إلا الانفلات والتمرد والعبث، مسمياتٍ تُخترَع من وراء البحار، ومن ضياع الفارّين قانونياً وفكرياً وأخلاقياً، ومن تغذية الضياع بالعمالة للمشروع المركزي الغربي، وهم يجتهدون كل أسبوع، من فراغ وباطل، لتلفيق مسميات ليوم الجمعة لا أصل لها ولا معنى ولا قيمة، ككلمة الخنفشار التي تحدّى بها طلابُ علمٍ شيخهم في اللغة الذي كان يصعب عليه أن يقول: لا أعرف، فيجيب عن كل ما يُسأل بأسرع جواب، فبماذا سيجيب محرضو هؤلاء حين يتركونهم على قارعة الطريق والتاريخ فشلاً وخزياً؟.

فمن الواضح أن ما أنجزه الحراك الشعبي العربي الراهن لم ولن يدخل في مرحلة التحوّل الديمقراطي الحقيقي، لافتقاره إلى إمكانية تأسيس نظام ديمقراطي يطمئن إليه المجتمع بكافة أطيافه.

ومن الواضح أيضاً أن نشاط عصابات الإجرام المسلّحة يزعزع أمن واستقرار الوطن، ويروّع المواطنين، كما يعيق الحوار الوطني، ويعرقل الإصلاح المطلوب، فلا بد من الاستمرار في مواجهتها والقضاء عليها، ولاسيما أن الطريق أمامها قصيرة ومحدودة ومغلقة، وهي تتهاوى اليوم بطروحاتها وأدواتها الداخلية والخارجية، فالوعي الشعبي والإقليمي والدولي يتنامى ببطلان مشروعها.

والمنجز الآن لديها هو فقط دخول متدرّج ومستمر في الفوضى السياسية، والانفلات الاجتماعي، والتمرد على القيم والأخلاق، ناهيك عن سفك الدماء وهدر الإمكانات، وهذا ما أدى في أغلب البلدان إلى انفجار سياسي واجتماعي، وفلتان سلوكي واسع مقترن بالخروج عن القانون، وبإحباط فئات واسعة من الشعب، رافقه قلق ممزوج بالتشاؤم، وإجهاد للناس وللمؤسسات كافة.

ولا شك في أن هذه الظواهر غير عصية على العلاج والتجاوز، وهذا النكوص عارض طارئ، فروح الأمة الحية، وطاقات الشعب الكامنة هي أقوى من هذه المشاهد البائسة التي يغذّيها التدخل الخارجي، خاصة بترسيخه نظرية «معاداة الجوار بين شعوب المنطقة»، ولاسيما حين يقترن مشروع الإصلاح الوطني الديمقراطي الناجز بآفاق فكرية واجتماعية وروحية، ونحن نشاهد اليوم مبادرات فردية وأهلية وشعبية ورسمية تحقق إنجازات وطنية متتالية في عودة الوعي والانتماء والالتزام بالمصلحة الوطنية المرتبطة، ولا شك، بتقدم مشروع الإصلاح الناجز خطوات واضحة إلى الأمام، لا تفتقر إلى المراجعة الموضوعية، والنقد البنّاء والهدف الوطني والإنساني الطموح.