كلمة البعث

أما يزال البعث في شبابه؟

د. عبد اللطيف عمران

أسئلة مشروعة كثيرة تدور في أذهان أجيال اليوم على امتداد ساحات الوطن والأمة، وهي ليست طارئة، فأغلبنا يتساءل “هل شاخت أفكار البعث” أو بنيته التنظيمية وأساليب عمله، وهل ما يزال البعث ضرورة وطنية وعروبية، أم أن استهدافه حقق الغرض ؟

بالأمس تميّزت احتفالات جماهير شعبنا وحزبنا في سورية بالذكرى الخامسة والستين لميلاد الحزب بمظاهر لافتة من عدة جوانب أهمها الدور الفاعل المتجدد لشريحة الشباب في إضفاء مظاهر احتفالية طوعية جديدة على مستوى المضمون والشكل عمّت أنحاء البلاد، وعبّرت عن استمرار البعث قوة خلاقة في وجدان الشعب، ما يعزز الثقة بالقدرة على اجتراح حلول ناجعة لتحديات الواقع، تنطلق من منهج جديد قادر على التفاعل مع التحولات الفكرية والتنظيمية الجارية في المنطقة، وبأساليب لا تقع في ميدان تقليدي، بل تنبثق من روح العصر، ومن حيوية الأجيال التوّاقة الى تجديد الألق الوطني والقومي.

وقد أتى هذا في سياق غير منقطع عمّا يشهده المجتمع العربي في مشرق الوطن ومغربه من تحولات إيجابية على نحو ما نرى من حراك لا يبعث أبداً على القلق في مصر وبلدان المغرب العربي، أما في بلدان الخليج -وعلى سبيل المثال- فقد خاض “ملتقى النهضة الشبابي” سجالاً قوياً مع البنى التقليدية في الفكر والمجتمع والسلطة، وتطوّر مفهوم النهضة عند الشباب منذ الملتقى الأول الذي عُقد في البحرين، فتوسعت أطياف المشاركة في الملتقى الثاني في الدوحة، وما إن وصل الأمر الى عقد الملتقى الثالث في الكويت -منذ أسابيع- حتى برز تنوّع أكبر في المشاركة والطروحات ولا سيما ما يتصل بمناقشة مفهوم المجتمع المدني، وهنا تضافرت قوى سلطات الخليج السياسية والدينية، مع السلفيين الحركيين، ودفعت بالداخلية الكويتية الى إلغاء الملتقى الثالث، لكن ملتقى الشباب لن ينكفىء.

هذا الواقع يثير من جديد علاقة “البعث” بالمتغيرات وبالتحولات، وهي علاقة وطيدة، خبرتها أجيال البعث، وخاضت معها سجالاً نحتاج معه اليوم إلى مراجعة نقدية، ومصالحة ذاتية تاريخية وفكرية ينهض بها خبراء لا يفتقدهم الحزب، حاضرون وقادرون على الفعل، ولاسيما أنه مرّ عبر تاريخه بتحولات أربعة أساسية، تمثّل أولها في الرد على الانفصال وقيام ثورة الثامن من آذار 1963 وما رافق ذلك من دور ريادي في المجتمع والدولة. وكان الثاني منها في حركة 23 شباط 1966 وفيها تقدمت إيديولوجية الرفض والانكفاء والثقة الذاتية الفائضة. وأتى الثالث منها رداً على ذلك في الحركة التصحيحية ومعها انفتح الحزب على التعددية الحزبية والاقتصادية في الداخل والخارج ما مكّن من وضع الأسس اللازمة لبناء سورية المعاصرة، واستطاع الحزب في الفكر والأداء أن ينجو من تحديات كبيرة مع الانهيار الجيوسياسي للمنظومة الاشتراكية، ومع تقدم مخاطر النظام العالمي الجديد.

وكان الرابع منها مع بداية الألفية الثالثة ومع المؤتمر القطري التاسع، وخلاله ازدادت وطأة المحافظين الجدد وتجّار الحروب على المجتمع الدولي جرّاء هيمنة الأحادية القطبية وما نتج عن ذلك في 11 أيلول واحتلال العراق… واستهداف دور سورية القومي في المنطقة، وصولاً الى استهداف القيادة السياسية وحزب البعث اللذين حققا نجاحاً باهراً في تعزيز الوحدة الوطنية مع المتحول الثالث، وفي تماسك مؤسسات الدولة والمجتمع والجيش مع المتحوّل الرابع في الأزمة الراهنة، تماسكاً نتج عن طروحات مهمة برزت في المؤتمرين التاسع والعاشر للحزب حول الشفافية والمؤسساتية وتوسيع دائرة المشاركة في القرار لكافة أطياف المجتمع، والعمل على ثلاثية التخلي عن أفكار تجاوزها الزمن، وأفكار أصيلة راسخة تتجدّد الحاجة إليها، وأفكار جديدة يجب البحث عنها واستدعاؤها. هذه الثلاثية التي أكد أهميتها منهجياً السيد الرئيس بشار الأسد الرفيق الأمين القطري للحزب في الحياة العامة للمجتمع والدولة والحزب قادرة على تجديد حيوية الحزب، وتعزيز حضوره ودوره الاجتماعي والوطني والقومي.

واليوم مايزال “البعث” في شبابه، ومع شبابه داخل تنظيمه وخارجه، في سورية وبقية البلدان العربية، وهو يواجه مع القوى الوطنية والتقدمية فئات تنبثق من تحالف الرجعية والاستعمار الغربي وتنطلق من احتكار الدين الإسلامي وتزوير قيمه وتاريخه، ومن إقصاء التنوّع والحق في الاختلاف، وضرب العيش المشترك، وتنخرط في سياق تآمري يردفه تدخل خارجي وتضليل إعلامي، وتحريض أمني وسياسي.

والبعث مطالب في المناخات الجديدة، وفي أفق مشروع الإصلاح الواسع أن يجدد حيويته، وأن يقيم مراجعة نقدية مع نفسه، ومع التساؤل المثار حول دور الأحزاب والمنظمات والنقابات في الأزمة الراهنة التي تطرح تحدياً كبيراً على المجتمع والدولة والمعارضة الوطنية.