كلمة البعث

ربيع الخراب

د. عبد اللطيف عمران

أنجز الشعب العربي في تاريخه المعاصر انتصارات على الاستعمارين القديم والجديد، وعلى بعض مظاهر التخلف والتجزئة والرجعية. وقاد نضال هذا الشعب مفكرون ورجال سياسة وعلم ودين كبار يعتزُّ بهم أبناء المغرب والمشرق من أمثال عبد الحميد بن باديس وخير الدين التونسي والطاهر الحداد والكواكبي والأفغاني ومحمد عبده وأديب اسحق وشبلي شميّل…. أمثال هؤلاء من عقلاء الأمة الذين التفّ حولهم الشعب هم الذين يستطيعون أن يرسموا ملامح النهضة والتغيير والوحدة الوطنية والعربية.

واليوم، ومع نزوع الأجيال العربية الجديدة نحو التحرر والتحرير والمقاومة ومواكبة معطيات ثورة المعرفة والاتصالات، ومحاولات بعض السلطات الوطنية التعايش مع هذا النزوع، تبرز أنواع من مصادرة الوعي وتزويره وحرفه عن مساره المشروع يقودها تحالف غربي استعماري، وعربي رجعي يعمل على أن يكون الانتقال مؤسساً على الفتنة والدم والتكفير والإرهاب والتدخل الخارجي والتضليل الإعلامي، وبشروط أهمها ألّا يطال الانتقال أصدقاء الغرب ولا سيما الدول الخليجية حتى لو شهدت ربيعاً حاراً على نحو ما نجد في البحرين.

ومن المؤسف أن ينخرط في هذه المصادرة والتزوير والتضليل بعض النخب الفكرية والإعلامية والدينية، فنجد على سبيل المثال مثقفاً يدعو أبناء دينه الذين لهم تاريخ وطني وعروبي عريق قائم على التسامح والهدوء والوعي الى الانخراط في مشروع الفتنة والدمار والخراب.  كما نجد مفكراً وسياسياً وممثلاً بارعاً وسيناريست يتنقّل بين العواصم يعرض بضاعته وازدواجيته ومغالطاته لينتهي به المطاف منظّراً مأجوراً منتفشاً بالبترودولار في فناء أقذر قناة وأخبث سلطان، لنصل الى شيخ فتنة خرف هرم مهذار مزواج. أمثال هؤلاء لا شك في أن رهان الأجيال عليهم، ورهانهم على التأثير في الأجيال سيكون رهاناً فاسداً، وهم الذين سيجعلون أي ربيع خراباً. وهم على تباينهم ينتصرون لمشروع متناقض ضائع يضرب في مجاهل الواقع وفي ضبابيته المؤذية، يفتقدون الصواب، ويستلبونه ممن في حاجة وتطلع إليه.

هذا الخراب المفتعل بدأت ترتفع أصوات عديدة في الغرب تحذّر من بنيته وأهدافه ووظيفته، وتبيّن أنه مؤسس على الخداع. فقد بدأت بعض المحطات التلفزيونية والصحف الأوروبية والأمريكية تراجع وتنتقد نفسها بعد أن تبنّت تقارير تزوير وتضليل الناشطين المعارضين في سورية وغيرها، والمأجورين من قناتي الجزيرة والعربية بتمويل وتسليح قطري سعودي، فأقرّت مثلاً صحيفة ذي تايمز البريطانية أنها وصلت الى فقدان الثقة بإعلام المعارضة السورية وبطروحاتها وأهدافها كاملة، وعبّرت عن خيبة أمل كبيرة نظراً الى أن “التزييف كان غير متقن أبداً هذه المرّة”. وكذلك نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية مقالاً منذ أيام يكشف زيف صور سرّبتها المعارضة الى الإعلام، كما نددت واستنكرت ما نشرته في هذا السياق صحيفة دايلي مايل البريطانية من تضليل للرأي العام.

والواقع أن هؤلاء استغلوا أبشع استغلال تراجع المشروع القومي العربي، وتصدع بنيانه وأهدافه وحَمَلته، وقد استتبع تصدع هذا المشروع صدعٌ آخر أكثر خطورة تحدّث عنه مؤخراً المحلل الأمريكي توماس فريدمان، وهو ما ينجم الآن عن فشل المشروع الوطني العربي الذي انزلق أيضاً نحو الطائفية والقبلية والمناطقية والعشائرية. وقد ربط فريدمان ذلك بتساؤل مرّ يجيب عليه مشككاً بنوايا أرباب المعارضة العربية ولا سيما الإسلامية منها، وفي ما إذا كان لديهم القيادات المتعلّمة اللازمة لصياغة الهويات السياسية الحديثة ؟

وبالمحصلة، يتّضح أن الجهود المبذولة رجعياً وغربياً غير كافية لجعل هذا الخراب ربيعاً. وهي جهود عاجزة عن إنتاج هيكلية سياسية أو شعبية أو حزبية أو سلطوية قادرة على دفع نزوع التغيير المنشود نحو الاستقرار والازدهار. وذلك لأسباب بنيوية ووظيفية تتصل بالارتباط بالتدخل الأجنبي وبالنزوع الإرهابي والتكفيري والعنف الدموي، وبتقديم التفكير في السلطة على حساب الأمة والدولة والمجتمع، وبضياع المرجعية المعرفية والأخلاقية الوطنية والقومية، وبالسرعة والانفعال. وإذا ما حققت نتائج هذا التحالف بعض الفوز الانتخابي، فإنه فوز مغالط ومضلّل ومؤقّت، ويذكّر في بعض اتجاهاته بوضع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى حين وصل الحزب النازي الى الحكم بالانتخابات.

إننا أمام مشهد تاريخي مؤلم تغيّب فيه الحقائق، وتتلاشى معه القضية الوطنية والعربية المركزية، ويختلط فيه الليبرالي باليساري بالتقدمي بالرجعي، مشهد انفجار حزبي وشعبي، لا تفرّق خلاله النخب بين منطق الأحزاب السياسية والجماعات الدينية، على الرغم من أن الاختلاف واضح من حيث المنهج والذهنية والأهداف، وإدارة العملية الديمقراطية الداخلية….

وسيتبدّد هذا الخراب، وتسطع أصالة الأمة، ووعي الشعب وقوته وقدرته على هزيمة نتائج تحالف الغرب والرجعية، والتزوير والارتزاق، وإن غداً لناظره قريب.