ثقافة

“لم أمسس” لـ باسم سليمان كيف تصير القصيدة أناه ويصير ضميرها

ليست الكلمات التي يبتكر لها الشاعر السوري باسم سليمان إيحاءات حادة في رقتها، وحانية في قسوتها، هي من سيغريك صديقي القارئ ببدء تقليب أوراق ديوان “سليمان” الشعري (لم أمسس)، لا ليست الكلمات وحدها، ولا اللغة السردية عالية المزاج، وهي تعلن بصوت عال عن حضورها الواثق والأكيد في نصه، بعيداً عن البوحية الخافتة، والترميز المشفر للمعاني “حجة عديمي الموهبة”، ولا هذه أيضاً، بل الرائحة، الرائحة التي ستنفذ من الرؤى والخيالات المسجونة بالحبر، لتتسلل علانية من قضبان القصيد، مخترقة عوالم قصية في خاطرك، ستدفعك رائحة قصيدة باسم لارتيادها مرة أخرى، واكتشاف مفازات فريدة كنت تجهلها، في حين كنت تعتقد أنك قابض بإحكام على حبل نسيانها.
الرائحة المأهولة بالكرى التي تذكّر بأعطيات خالدة، مفرحة حيناً، ومحزنة حيناً آخر، أعطيات للقلب، وأخرى للقلق، نسيس اشتعال الحرف، وهو يحترق ليضيء الحرف المتعرش عليه وهكذا، عطر غائبين، وتبغ وحدة، فوح الرغبة، ورعونة الكبش الفحل، طيور ترسم شفقاً قديماً، وأخرى تحترق على الفحم، جديلة تتمشى في خاطر مشط، وجديلة كعاصفة مؤجلة، هذا ما أنت مقبل عليه في “لم أمسس”، صديقي القارئ، هذا ما ستعرفه بدلّالك وحده، ولن أكون إلا دليلك المتواضع إلى عتبات النص:
/متخلصاً من طين الستارة، في آخر الممر، أريد التكسر.. لوح بلور/ قدام قدميها/ لا ليس للأذية / لتأخذ وقتها في تنظيفي/ لربما تجرح اصبعاً، فتمص بقية الدماء في شراييني/ حيث أوردتي نسجت قميصاً اغتدى رملاً في فرن الزجاج/.
مقطع من قصيدة “قدام قدميها”، يرد فيه صاحب “تشكيل أول” الأشياء إلى صيرورتها الأولى، قبل أن تفسدها المرامي البعيدة لمحترفي الكلام، أو تخرب ذائقتها هوامش اليومي والعادي والمهمل، وتهافت هواة السبك عليه. ليستيقظ الذكر القديم فيه، هو رغبتها وهي رغبته أيضاً، هو باعثها وهي مفنيته، هو سيدها، وهي مرضعته لكن من الخلود.
عندما تنامين/ ستتلمسين أصيصك السري/ ستجدينه مخموراً بالندى/ لكثرة لهاثي /يامرأة تضاجع رصيف الكحل/ تحمل أيتام المفارق/ أنجبيني قبلة كشارع/.
مشهد قصير من قصيدة “ليست sms”، يعلي باسم من شأن لغته في تعبيرها عن جوانياته المكشوفة إليه تماماً، ولربما هذا أكثر ما يميز قصيدة باسم سليمان صدقها، الذي يشتغل على ضبط موازين أخرى لا تحتفي فيها قصيدة النثر عادة، كالإيقاع، إلا أن قصائد “لم أمسس” تخترع لثيمتها إيقاعها الخاص بها، تبديه المفردات تارة وتخفيه برشاقة ودلال تارات أخرى، وهذا عائد لنمط الوعي الفكري الناضج الذي يظهر جلياً في الموازنة ببراعة لاعب خفة، بين السبك اللغوي المحكم للنص، وبين التفلت المقصود من قواعد اللعبة السردية، في الإيهام والإشراق والإيجاز والتوهج، الشيء الذي يظهر بوضوح في قصيدته التي أحب “السندباد الذي مني” حيث يقول صاحب رواية “نوكيا”: وإذ تقص شهرزاد/ يتعكّز مسرور على سيفه/ يمص شهريار سبابة الأمر/ تغرق اليابسة خلفي/ لا أسمع صراخها / بحارتي يحلمون بكنوز سليمان وجواريه / رافعين أذرعهم مصائد للريح/ سكينتي تجرح صدر الأزرق/ فيسيل دم أبيض/.
باسم سليمان من الشعراء السوريين الذين قبل أن يحطموا التمثال، غاصوا في الطين طويلاً حتى تبللت به أرواحهم.
تمام علي بركات
Tmam7787@hotmail.com