ثقافة

حنا مينه.. بوح المتاح

لافتاً كان استدعاء محمود درويش في مدونته الرائعة «أثر الفراشة» لبرنامج حمل العنوان ذاته، أي «أثر الفراشة»، وبثته قناة سورية دراما مؤخراً، وهو من إعداد وتقديم ألمى كفارنة، وإخراج حسين مخلوف، وإشراف تميم ضويحي، وما يميز ذلك الاستدعاء ليس شفافية العنوان فحسب، بل شفافية حضور تماهى مع حضور الجليل حنا مينه الذي أحسن اختزال تجربته بجملة أثيرة: «أنا البحر في زرقته المائية»، فيما ظل الغوص في الذاكرة توسلاً رشيقاً لعلامات التجربة ومنجزاتها، والأكثر خصوصية في تعبير الذاكرة عبر ما دونه -مينه- على امتداد تجربته الغنية بأسرارها، وتيماتها، وانعطافاتها، وحواملها الفكرية، والاجتماعية، والإنسانية، والجمالية.
وعندما يصرح حنا مينه بأنه رجل اقترب من حدود التسعين، فإنه يلقي على الذاكرة، وعلى المتلقي الكثير من الأسئلة الشاقة، بصدد منجزه الراسخ، وبصدد ما أضافه للرواية العربية، وللسورية بشكل خاص، أن تُستدعى ذاكرته الآن.. الوقوف على اعتمالها بالكثافة، والتوهج، ودقة العبارة، ورواغ السنين الهاربة.
ذات مرة كتب الأديب الراحل محمد دكروب: «يقترب حنا مينه من حدود الثمانين، يقول لي بصوت يحمل هموم الدنيا في نبرته: تعبت يا محمد، اكتفيت، أتوب عن الكتابة – الكتابة عذاب يومي، صار يحق لي أن أرتاح».
واليوم في أفق التسعين عاد حنا مينه ليقول: «عشت طويلاً، الآن أريد أن أموت، وهذا كل شيء، يكفي ما كتبت، ملأت الدنيا صراخاً، وعويلاً، وبكاء، عليّ أن أستريح، أن أهدأ، وأنظر في الأصيل، وهو يغوص في البحر».
ولعلنا ندرك في تلك السياقات التي تضمنت بوح حنا مينه معنى ألا يجيب الرجل عن سؤال الحزن الذي تلبّسه، والذي سكنه وهجس به طويلاً، لأنه فعل إنساني عابر للزمان، والمكان، والكتابة، وبقدر ما هو شفيف حد الامتلاء، بقدر ما يعني أن لا حدود لبلاغته، أو تفسيره بممكن القول، فقد رمى أخيراً ذلك البحار «الطروسي» مرساته في لجة البحر، وبهدوء جلس يراقب قرص الشمس، وهو ينزل في البحر، في استعارة موحية لاستدعاء النهاية، وكأنها فعل خلاص: «من مكابدات الكتابة، وتيمات الصراع في البر، والبحر، والمرافق، والغابات، والمدن، وطرقات القرى، وجبال الثلوج، في زمن الانتداب الفرنسي، وزمن الاستقلال، وأزمنة الصعود القومي، والانتصارات، والزمن المفتوح في الحرب ضد الكيان الصهيوني.
عيناه الزكيتان الشغوفتان بالحياة منذ اللحظة الأولى التي كتب فيها قصته عام 1945، بعنوان «طفلة الربيع»، والتي رأى فيها النقاد آنذاك بأنها صارخة، لكنها مؤسسة لما بعدها، أي «المصابيح الزرق، الشراع والعاصفة، الثلج يأتي من النافذة، شمس في يوم غائم، الياطر، ثلاثيته بقايا صور، المستنقع، القطاف، وهكذا..»، ليصوغ حنا مينه في تلك المدونات، وما تلاها، ملحمة كفاح إنساني، مزنرة بالمغامرة السردية المفتوحة على الحلم، والواقع، والأسطورة، ما جعله يصرح: «وجدت نفسي في الرواية»، تاركاً للنقاد الانتباه، وحرية الأحكام لمن كانت لديه الكتابة ألذ المهن، دون أن يتخفف من السخرية، والفكاهة التي وسمت حديثه، إذ يتندر أنه لم يحقق ما أراده، وعندما سئل أجاب: «لم أصعد للمريخ!».
ذلك كان بوح مناضل وعى الحياة منذ فطرته الأولى، وجذبها للرواية في عمارات شائقة، ليقول لقارئه: خذ كتابي بقوة، وليقول للزمن تالياً هذا أثري كله، ولنا أن نقول أثر الفراشة لا يزول.
حنا مينه في تقشف إجاباته، استبطن لذاته، ولقارئه ألا يسأل عمّا أصبح نافلاً، ليتجاوز إلى مرح فطري يواسي استعجال الأسئلة، ليصبح هو سؤالاً مفتوحاً، لا إجابة له، خارج الغوص في البحر، فمن يقبض على لآلئه، اجتهاداً، فيستوفي كامل أجره، فهل هي مغامرة محسوبة، أم غير محسوبة أن نذهب للبحر، ونكتفي بإطلالة فحسب؟!.
أحمد علي هلال