ثقافة

عشوائيات في الحياة..عشوائيات في القلب أيضاً

“لا تحط الزبالة هون يا ابن الـ…، لا تبل تحت الشباك ياحيوان، راما + مهند = حب إلى الأبد، المطهر القانوني أبو جلال، القابلة القانونية أم محمد، الحيطان دفاتر المجانين، جبلة كسار راس الوحدة، من هنا بيت السيد المحترم”.

ما ورد أعلاه ليس هذياناً سريالياً، أو تنويطاً حرفياً للوحات سلفادور دالي، إنه ما يطالعني وأنا خارج من بيتي الذي أغيره كل ستة أشهر كبدوي يحمل خيمته على ظهره، ولأكون أكثر التصاقاً بإحساسي الداخلي حول هذا الموضوع، أشعر بأني نَوَريٌ لا سماء تظلله ولا أرض تحمله، أنتقل دون أن تختلف عليّ العبارات أو الجمل المكتوبة فوق الحيطان المتلاصقة، بحبر عجز الزمن عن إزالته عن بيوت بالكاد تستطيع حيطانها المصنوعة من البلوك والكرتون حجب الرؤية، ولكنها عاجزة عن كتم حديث يدور بين زوجين في غرفة نومهما، أو إخفاء صوت الفحيح الصادر عن تلفاز رجل عازب يسلي وقته بالأفلام أو أغاني علي الديك ومن لف لفه في الغناء الشعبي، أما إذا حالفني الحظ قليلاً، فلسوف أستمع إلى شذرات من “يا مسهرني”.
كنت في ما مضى أتحرج أن أعطي عنواني اللاموجود إلا في ذاكرتي إلى صديق يود زيارتي بسبب مركبات نقص عديدة ترسخت في وعيي لأسباب لست في صدد الحديث عنها الآن، والآن أيضاً أعجز أن أعطيه عنوان بيتي، لأنني أسكن “رقماً”.. هل سمعتم بشخص يسكن “رقماً” ؟ كيف لمن يسكن رقماً أن يكون له عنوان؟ وإذا حدث وجاء لزيارتي، فعليّ أن أواعده في منطقة نظامية، ثم أذهب لجلبه!!.
أقطن كآلاف غيري في مناطق العشوائيات، وتحديداً في تلك التي تعربش على جبال وعرة، يصعب على الحيوانات البرية أن تقطن فيها أو تسلك دروبها الصاعدة نحو السماء، مناطق أنشأتها المصادفة وغرابة الأقدار المحتومة سلفاً لأناس مثلنا عبّدوا دروبها بملايين الخطوات في ذهابها وإيابها إلى عمل شبه وحيد “كأنا خلقنا للردى وكأنما حرام على الأيام أن نتجمعا”.. عمل تآمرت الحياة والقدر على استنزاف أرواحنا وأعمارنا فيه، عمل مبرقع كثيابنا وأرواحنا لا نجيد غيره بحكم الوراثة، فنحن أولاد فلاحين تركوا السهول الخضراء والجبال النقية ليصيروا من أهل المدن، إلا أنهم بقوا على حوافها كأنهم لم يغادروا قراهم حتى في علاقاتهم بمحيطهم الاجتماعي مرآتهم في الخيبة والألم، فغالباً جيرانهم هم أولاد قراهم أو قرى أخرى مجاورة، وهكذا..س.
في تلك البيوت الميتة ينشأ أطفالنا وعيونهم لا تحفظ من الألوان إلا الرمادي المتشح بالسواد، اللون الوحيد الذي يخيّم على تلك المناطق بطولها وعرضها لبيوت لا فائدة ترجى من وجود نافذة فيها أو شرفة، لأن الإطلالة الوحيدة التي تطالعنا من تلك النوافذ والشرفات هي مناظر الرمادي والمرارة وحبال الغسيل والنفايات المتراكمة هنا أو هناك، نسينا أن ثمة أفقاً موجوداً، ونسينا لون السماء، حتى الشمس عزفت عن زيارتنا إلا بخجل شديد، بعد أن كسرت أشعتها ملايين الجدران الكتيمة، إلا أن شيئاً واحداً ينقذنا من الروتين القاتل الذي يصيب سكان المناطق المنظمة والأحياء المحترمة، وهو أننا ننام ونستيقظ لنرى أننا صرنا في منقلب آخر، ليلة واحدة كفيلة بأن يتغير سمتنا الوجودي، نستيقظ لنرى بناء من خمسة طوابق ظهر بقدرة مقاول شاطر بتشييد المزيد من بيوت الخيبة، وحجب ما تبقى من الهواء المكتظ بروائح الناس وروائح طعامهم وضجيج المشكلات العائلية التي تجد نفسك متورطاً في إحداها دون أن تدري، تبوّس ذقن هذا وتمسح شوارب ذاك لتفضّ الخلاف وتكتسب مهارة جديدة من مهارات التواصل مع الناس، تلك التي لم تتعلمها ولن تتعلمها في أي مكان آخر إلا السجن.
تكرمت الحكومة على القاطنين في تلك المناطق بتمديد المياه وتوصيل الكهرباء عبر أسلاك وخراطيم ملتفة بعضها حول بعض تقدح الشرارة منها وتكفي زلة قدم واحدة فوق تلك الدروب الضيقة ليصير صاحبها من سكان القبور، وبطبيعة الحال لن يتغير عليه شيء يذكر، سوى أنه ميت يسكن قبراً تحت التراب والآخرون أحياء يقطنون قبوراً فوقه، كما أنها أي حكومتنا المباركة بنت مدرسة ابتدائية لا تستوعب واحداً في الألف من طلاب تلك المناطق ومركزاً صحياً لا يفتح أبوابه قبل العاشرة صباحاً، وإذا حدث ووُجِد فيه أحد ما، فستلمح شبح المستخدم وكأنه شبح دار الأوبرا، رغم كل ذلك الشقاء الذي لم أصف إلا اليسير منه، إلا أن الحياة كعادتها لا تعجز عن الوصول إلى أي مكان تريد لترسّخ وجودنا كواقع واقع جداً، تطورنا وتطورت أنانا بعد مئة عام من العزلة يا صديقي ماركيز، فلقد غصت الطرقات بالمحال التجارية وصار لدينا طريق يخترقه السرفيس بصعوبة بالغة بسبب ضيقه واتجاهه الواحد، ويكفي أن تتعاكس سياراتان في سيرهما حتى يُخلق زحام جحيمي لايحتمله إلا من أوتي من العزم أشده، بعد أن حفظنا عن ظهر قلب كباراً وصغاراً “واستعينوا بالصبر  والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين”.
تم الحديث عن تنظيم تلك المناطق مراراً، ولكن “عيش يا كديش”، ربما كان الحديث عن موضوع التنظيم مجدياً في مرحلة ما، أما الآن، فالموضوع مستحيل، أو بالأحرى ضرب من ضروب الجنون، ولأن  حكومتنا المصون لا تتدخل في شؤون رعاياها القاطنين في ذلك الكوكب، اللهم إلا بتحصيل فواتير الكهرباء والماء، فهي لا تتدخل في أي شأن من شؤونهم حتى صارت الفوضى هي النظام الذي تسير عليه الحياة في العشوائيات، تاركة المتنفعين والمرتشين يرفعون من أسعار “أقنان” الدجاج تلك، كما لو أنها في “أبو رمانة”… تخيلوا بيتاً من غرفة ومنافعها إيجاره فقط 25000 ألف ل.س، أما سعر مبيعه فيبدأ من المليونين وبالطالع، عداك عن الأسعار المختلفة للمواد الغذائية بين حانوت وآخر؛ حسب مزاج البائع ودون رقيب أو حسيب، متروكين كالوحوش الضارية في سجن مفتوح.
لقد يئست أرواحنا، ونبتت الطحالب فوق أعيننا وشفاهنا، وصرنا كالأشباح الهائمة التي لا تلوي على شيء، لم يعد يعنينا أن نرى الشمس أو ترانا، ولا أن نحيا بأدنى متطلبات الحياة، جلّ اهتمامنا أن نؤمّن قوت أطفالنا بالحلال، لأننا نخشى الله في أولادنا؛ فنحن العساكر أولاد العساكر خُلقنا ميتين، ويكفي أن يقوم أحد أشاوس حكومتنا العلية بزيارة لتلك المناطق، لا ليعاين بؤسنا وسوء أوضاعنا المعيشية، فلم يعد يعنينا الموضوع، بل ليقوم بواجب العزاء، إذ ما من شارع أو حارة صغيرة إلا وفيها مجلس عزاء لشهيد قضى دفاعاً عن وطنه، الوطن الذي شرب كأس محبته صافياً مذ كان طفلاً يرتّل نشيده بخشوع قبل أن يعود إلى بيته الضائع منتظراً أن ينضج البرغل والسلق، قبل أن يمضي ليخطّ وظائفه في دفتر وضع على غلافه صورة علمه وكتب فوق أول صفحة “سورية يا حبيبتي”.
إن كان الله عادلاً أو موجوداً، فأعتقد بأن الرضوان سيفتح لنا باب الجنة، دون أي سؤال، يكفي فقط أن يرى فوق جباهنا تلك الندبة التي تقول: “كانوا أمواتاً وهم على قيد الحياة”.. كما أنني لا أظن بأن الجحيم أكثر قسوة من حيواتنا التي خلقت لتغنّي ..”بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب”.
تمام علي بركات