ثقافة

الجلاء: ذكريات وشعر

رحت أمس أسائل نفسي: ماذا بقي في القلب والروح والذهن، من ذكريات ذلك اليوم 17/4/1946 الأبيض مشرق الغرة، واضح القسمات، كهذه الجبال الزهية، تلونها الشمس كل ساعة، وتلك السهول الخضر، يتماوج النبات والعشب بين أيدي الأنسام والرياح فيها، وهذه الأنهار تسعى جارية، كأنها تركض إلى موعد مع حبيب.
أذكر ذلك الصباح جيداً في الشارع الكبير، وقد حمل اسم أحد أبطال الجلاء الرئيس شكري القوتلي، حسبت في البدء أن دمشق كلها زحفت إلى هناك، لم يبق مكان لموطىء قدم، حتى شرفات الأبنية وأسطحتها اكتظت بجماهير الفرح.
حتى الأشجار على أطراف الشارع هناك، يخيل للرائي أن الناس نبتوا بين الأغصان.. لم تكن سنة قد مضت على إنشاء الجيش السوري، ولكن وحداته مع ذلك أخذت تترى من مختلف صنوف الأسلحة، وكأن سنين عديدة مضت عليها، وهي بين أيدي الرجال.
يومذاك عرفت سورية كلها، ربما للمرة الأولى في تاريخها، معنى آخر للدموع سوى الحزن والأسى كان ذلك عيداً ليس كسائر الأعياد، ويوماً ليس كمثله يوم.
كان ذلك أيضاً، يوماً للشعر والشعراء، وهل كالشعر، ما يقدر على النهوض إلى مستوى المناسبة؟.
كان بدوي الجبل الشاعر الملهم المتفرد يومذاك في الأربعين من عمره، وعهده هو مع الديباجة المجلجلة كأنها قادمة من زمن بعيد، جاء من الجاهلية، لكنها تذكرك بعمرو بن كلثوم، بلغته السلسة البسيطة وأصدائه الرقيقة.. لا، بطرفة أو عنترة، وهكذا تقدّم ليفرغ ما في نفسه، من فرح وذكريات يختلط فيها الأسود بالرمادي، وما كان أندر الأبيض أو أقله، كانت صورة المعركة بما فيها من ضحايا ودماء وأشلاء، وبما كُرمت به من شهداء هي المسيطرة على قصيدته:
وتعرف هذه الحصباء منا
دماً سكباً وهامات وراحا
وأشلاء مبعثرة تمنت
على البيد، الشقائق والأقاحا
تتيه بها الرمال وتصطفيها
من الفردوس ريحاناً وراحا
يرف على خمائل غوطتها
هوى بطل على الغمرات طاحا
وألمح في السراب متى شهيد
تخيل في الوغى الماء القراحا
فلا حرم الشهيد بروض عدن
على بردى غبوقاً واصطباحا
على أن عمر أبو ريشة الشاعر الجميل السلس صاحب الأطياف الرومانسية، تخيل مجد الجلاء عروساً في ليل جلوتها، وفي الآن ذاته، فإنها كانت قد قامت قبل تلك الجلوة، بجولة طافت خلالها في الربوع الغالية بما مر عليها من كوارث:
يا عروس المجد تيهي واسحبي
في مغانينا ذيول الشهب
لن تري حفنة رمل فوقها
لم تعطر بدما حرّ أبي
وانتبه الشاعر في قصيدته التاريخية إلى مسألة طالما رددها المناضلون في سبيل الحرية: ما مات حق وراءه مطالب:
لا يموت الحق مهما لطمت
عارضيه قبضة المغتصب
وكأني به أراد أن يذكّر الأجيال الجديدة، جيلاً بعد جيل، بالمعارك الضارية التي خاضها آباؤهم وعلى الرغم من أنها لم تكلل بالنصر، فإنهم لم ييئسوا، ولم يتخاذلوا:
كم لنا من ميسلون نفضت
عن جناحيها غبار التعب
كم نبت أسيافنا في ملعب
وكبت أجيادنا في ملعب
من نضال عاثر مصطخب
لنضال عاثر مصطخب
شرف الوثبة أن ترضي العلى
غلب الواثب أم لم يغلب
لقد كان شاعر الشام شفيق جبري من الجيل نفسه، وإننا لنلمح في شعره تلك الأصداء القوية التي تصطخب فيها القوافي، ويشعر قارئها بمتانة السبك وتناهي الفصاحة، وربما كان الشعراء العموديون لايزالون حتى اللحظة يعتزون بهذه الخصائص.
كان صدى الجلاء عميقاً في نفس شفيق جبري حتى أنه كتب في السنة ذاتها قصيدة ونظم أخرى في سنة ثانية، وطبيعي أن يسيطر الفرح النابع من تلك اللحظات التاريخية العظيمة على قصيدة الشاعر ، وهو في سورة بهجته بالمناسبة:
حلم على جنات الشام أم عيد
لا الهم هم ولا التسهيد تسهيد
أتكذب العين والرايات خافقة
أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد
كأن كل فؤاد في جلائهمو
نشوان قد لعبت فيه العناقيد
ملء العيون دموع من هناءتها
فالدمع در على الخدين منضود
غير أنه في قصيدته الثانية التي قالها في الذكرى الرابعة عشرة عام 1960، وقد هدأت عاطفته الجياشة وانفعاله المحتدم، راح يتذكر الأيام الصعبة طوال ربع قرن ، تلك التي تكللت تضحياتها الغالية، بذلك اليوم العزيز:
ذكرى الشدائد ما تنفك ماثلة
في أربع الشام نطويها وتطوينا
لو الأضاحي على أعوادها نطقت
دوت بثورتها الكبرى أضاحينا
على رفات العدى عاشت خمائلنا
ومن نجيع العدا فاضت سواقينا
في ذلك اليوم قال الرئيس شكري القوتلي: « إنه يوم مشهود من أيام العمر.

نصر الدين البحرة