ثقافة

ذكرى الجلاء.. ملامح حاضرة وقامات غائبة في المنجز الدرامي السوري

على كثرة ما قدّمته الدراما السورية في سياق إخلاصها لرسالتها الوطنية، ونزوعها الحرّ إلى استدعاء التاريخ برموزه وشخصياته، واستلهام القيم السامية التي رسختها تلك الشخصيات، تبدو الحاجة ملحّة اليوم ولاسيما مع الأزمة والحرب التي تشنّها قوى الطغيان والظلامية ضد سورية مكانةً وتاريخاً وحضارة، إلى إعادة قراءة التاريخ من منظور جريء وموضوعي، أقلّه الوقوف عند القامات التي حاربت كي تبقى سورية حاضرة الأمة وأيقونة الشرق، ومن هؤلاء بالتأكيد الرجال الذين صنعوا بتضحياتهم ودمائهم يوم الجلاء، وقارعوا ببسالة وشجاعة مدفوعين بحب الوطن وعشق ترابه، لدحر الاحتلال الفرنسي عن الأراضي السورية.
ولئن كنّا نعتز بالمنجز الدرامي السوري على اختلافنا أو اتفاقنا حول بعض تفصيلاته ومقولاته، غير أن المكانة التي وصلت إليها الدراما السورية في وجدان ووعي المشاهد العربي عموماً والسوري خصوصاً، تستدعي وانطلاقاً من وظيفتها المأمولة أن نعيد الاعتبار لبعض القامات والشخصيات التي كانت علامة مضيئة في تاريخ سورية المعاصر، ونسعى إلى البحث في سير هؤلاء الأبطال ليقرأها الجيل الجديد (بصرياً)، ويعرف قيمة أن تكون منتمياً لبلد عريق مثل سورية.
لقد قدّمت الدراما التلفزيونية عدة أعمال حول ذكرى يوم الجلاء العظيم، بدءاً من فترة الستينيات وصولاً إلى هذه اللحظة، في محاولة لتأريخ كفاح الشعب السوري ضد الاحتلال الفرنسي، حيث يمكن أن نتذكر التمثيليات القصيرة مثل “فجر الاستقلال” إخراج هاني الروماني، و”الطفل” إخراج علاء الدين كوكش و”الدقائق الخطرة” إخراج رياض ديار بكرلي، و”بائع الحليب” إخراج قسمت طوران، وتالياً “الغضب” و”المساومة” إخراج غسان جبري، و”الهيبة” تأليف رياض سفلو وإخراج عبد المسيح نعمة، و”هدية إلى الثوار” التي كتبها عبد العزيز هلال وأخرجها محمد الشليان، و”الجسر” تأليف إلياس إبراهيم وإخراج محمد بدرخان، كما كتب إلياس إبراهيم أيضاً تمثيلية بعنوان “الوصية” أخرجها آنذاك نبيل شمس.‏
وفي حقل المسلسلات الطويلة كان هناك “البسطاء” تأليف خيري الذهبي وإخراج سليم صبري، و”رجال وضباب” الذي كتبه الفنان رضوان عقيلي وأخرجه جميل ولاية، ومن ثم المحطة المهمة في مسلسل “بسمة الحزن” إخراج لطفي لطفي وسيناريو رفيق الصبان عن رواية للكاتبة السورية الكبيرة إلفت الأدلبي، و”أبو كامل” تأليف فؤاد شربجي وإخراج علاء الدين كوكش، و”هجرة القلوب إلى القلوب” للكاتب عبد النبي حجازي والمخرج هيثم حقي، و”حمام القيشاني” الذي كتبه دياب عيد وأخرجه هاني الروماني في خمسة أجزاء، و”نهاية رجل شجاع” لنجدت أنزور عن رواية حنا مينه، فضلاً عن الجزء الثاني من “إخوة التراب” التي كتبه حسن م يوسف، و”أيام الغضب” الذي أخرجه باسل الخطيب، وهما محطتان مهمتان في تصوير فظائع الاحتلال الفرنسي وجرائمه.
على أن بعض الأعمال اقتصرت حكايتها فقط على استدعاء الفترة الزمنية أو اتخاذها خلفية للحديث عن الجانب الاجتماعي الضيّق إبان الاحتلال، ونذكر في هذا الحقل أعمال (الداية، الوردة الأخيرة، كحل العيون، باب الحارة، كوم الحجر، الشام العدية، طاحون الشر، الزعيم، المصابيح الزرق… وسواها).
لقد صوّرت جميع الأعمال والمسلسلات التي ذكرناها نضال السوريين ضد جميع أشكال الظلم والتعسف والتجهيل والتقسيم وجرائم القتل التي مارسها المحتل الفرنسي، ووقفت بدرجات مختلفة ومتفاوتة عند الأحداث والتحولات السياسية في تاريخ سورية الحديث، كما أرّخت لجوانب الحياة الاجتماعية وواقع الثورة ضد المستعمر، وسلّطت الضوء على الموروث الشعبي والقيم النبيلة والمعاني السامية والعلاقات التي تربط أفراد العائلة والحي والحارة والمدينة، ومدى وعي الإنسان السوري بقضيته الوطنية، غير أنها -بزعمنا- بقيت عاجزة عن إنتاج عمل كامل يقف عند السيرة الذاتية لأحد أبطال الجلاء، وخاصة إذا علمنا أن قامات مثل سلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي وأحمد مريود وإبراهيم هنانو وحسن الخراط كان في حياتهم الاجتماعية وقصص بطولاتهم ما يغري أي باحث يريد إنصاف ورفع الظلم عن هذه القامات الكبيرة، أن يبحث ويكتب عملاً خالداً بخلود الشخصية التي يتبناها.
ومثلما لاحظنا فإن بعض الأعمال والمسلسلات التي أُنتجت اعتمدت كلياً في حكايتها ومتنها السردي على المنجز الروائي السوري الذي تصدّى له كتّاب كبار مثل حنا مينه وألفت الإدلبي وخيري الذهبي وغيرهم، ما يستلزم أيضاً إعادة نبش تجليات يوم الجلاء العظيم في الرواية السورية التي تفوقت كثيراً وسبقت المنجز الدرامي السوري برمته ووقفت عند مفاصل ومحطات مهمّة في سيرة كفاح الشعب السوري ضد الاحتلال.
إذاً ما نأمله من صنّاع الدراما السورية التي دخلت كل بيت وباتت عاملاً مرجحاً في صياغة وعي وذاكرة الأجيال اللاحقة والإنسان السوري عموماً، ألا تكتفي بالاحتفاء بهذا اليوم وحسب، إنما أن تغامر وتتجرأ في استدعاء وتخليد من صنع بدمه وتضحيته ذكرى يوم الجلاء العظيم.
عمر محمد جمعة