ثقافة

محطات لا تعرف الهدوء ؟!

الشعُر حالةٌ فوق الوصفِ، وضوعُ ورُوُدِ الحدائقِ المعلَّقةِ في “بابل” ولهاثِ “زقُورات” الأبراج العاليةِ، وصدى رماح “سومر” وسنابل سهل “شنعار” الخصيب، وضجيج عجلاتِ “كلدان” وهُتافِ أناشيد الحياةِ والموتِ وحّمى الصرّاع على قِيم “الحق- الخير- الجمال”! وصُراخِ “أنكيدو” وجبروت “خَمبابا” حارس غابات الأرْزِ المقتول على صدْرِ الصّراعاتِ الملغُومةِ والمحبوكة.. ما بين “جلجامش وأنكيدو” رفيق درب الحياة الطويلة، والشهيد الجميل لمقولة “المجتمع معرفةٌ، والمعرفةُ قُوَّةٌ”/ وكلّما صَعدنا قِمةً، تراءتْ لنا قِممٌ/.
* هذا “الإنسانُ” الذي تعوّدَ أن يقف هكذا، وقفة النَّسْرِ، كي لا يجتاحهُ طوفانُ، وفيضان الاستهلاك “المحلّي- العالمي” ويسبح في وحُول البركِ التي يعجُّ بين شطوطها النّاشفةِ، نقيقُ الضفّادعِ، والديدان، وصغارُ الثعالبِ التي تفتَّش بين هذا الرّكام النَّتنِ، عن بقايا لزغاليل الطيور الشّاردة؟!
وجميلٌ تدفُّقُ الينابيع، ليتجدَّدَ “المجرى” غاسلاً ما علق من أوراق الحوارات البائرة، وتنبُت، وتتباهى على ضفافهِ، أعشاب، وحشائش الخرافِ الفزعةِ!
ويأتي “القطا- البطُّ- العصافيرُ” والطيور الأخرى، تغتَسِلُ، وتسْتَبردُ، وتعبِّىءُ جوفَها الملتهب بالعطش المزمن القاتل بمياهٍ لا تعرفُ سوى المساءات البليلةِ، والصَّباحاتِ النّديَّةِ، وقيلولة السّماء الزّرقاء التي تتبرَّج ببعض الغُييماتِ العابرةِ، فوق خدودِ وَوَجْهِ المياه الجارية؟!
* هاهي تُداهمك وعلى حين غرّةٍ، هبَّاتٌ من بساتين الأرضِ، حيث تتجلّى المواسم الحبلى بالعطاءاتِ، والحواكير التي أدمنتْ حتى التّصوُّف عشقَ الجمالِ، والـ “شامُ” تلبس تنُّورةً مًطرّزةً ببراعم الفُصُولِ، تتمنّى أن تدفُنَ، تَمْرَغَ فيها وجُهكَ، لتشمَّ عبقَ، ورائحة الوطن المغمّسِ بالعرقِ والتّعبِ والتَّضرُّعاتْ؟!
* روعة الشِّعر أن يتزَيّا بهموم الأرضِ والإنسانِ، وأن تنتمي القصيدةُ إلى البيئة والزَّمكانيّة التي منها، وفيه تتدفّقُ خوابي النّبيذِ، وتستحي الكروم أن تُدْلي، وتتدلّى بعناقيدها النّاضجة، وخُصلاتٍ من حِصرْمٍ، ترنو إليهِ، وتتمنّاهُ تتشهّاهُ الحُبالى قبل الولادةِ، والقصيدةُ المبّدعةُ، تتهجَّسُ الألفاظَ، وتتشابك كلماتُها، وألفاظُها كقرونِ وعْلٍ استوائيّ، حيث تتماهى في خواطرِ الجيشّان المتواري، بين طّياتِ المواويل الشّاردةِ على أطرافِ البلعاسِ المرقَّعِ بالجفافِ، والمُلّوع ببكاء الجداء النّاطره!
وتروحُ “القصيدةُ” تدوخُ في عذاباتِ البلادِ، تعُجُن بيديها، تُقرِّصُ، وتخبزُ على
“صَاجِ” و”تنُّور” التّلهُّفِ والاشتياق، يسيل لعابنا، نحن الجياعُ لِرائحة الخبز، ونكهةِ السَّنابلِ المفروطةِ، في ساحاتِ بيادرنا الموسميّةِ!
أتمنى، ولو “شَدُّوقاً، شقفةً” من رغيف تنُّوركِ الكونيِّ أيتها البلادُ التي ما بخلتْ، ولا. ولن تبخَلَ على أبنائِها، أبناءُ الحياةْ؟!
* تبدو القصيدةُ وتراً مشدوداً، بين تُراثِ مُتّشحِ بالغبارِ، فهي لا تحبُّ ولا تُطيقُ مرآى السيوفِ، مُعلَّقة هكذا على جدرانِ البيوتِ للزّينةِ، أو للتباهي بالأمجادِ الغابرةِ، يومَ “كُنَّا، وكانوا” تحبُّ السّيوف مشحوذةً، بالموقفِ والانتماءِ، بعيدةً عن صَدَأ أغمادها! تلمع تحت وَهَجِ الشّمس، فالقصيدةُ شاعرةً مُتعبةٌ، مسكُونةٌ، ومُحاصَرَةٌ بالهموم، صَرَخاتُها مُوجعةٌ، يتردَّدُ صَداها في فضاءاتِ وجُودها، دائماً تتأمّل خرائَبَ النّفَسِ القلقَةِ، وتجربة الحياةِ تقومُ أحياناً على اجْتماع “التَّضَادِ- المُتناقضاتِ، وحُشودٌ من التّعابير الاستعاريّةِ الشّفيفةِ، وهذا يتباينُ مرتجفاً، وهَلُوعاً في وقْدِ المعاناةِ، واقْتناصِ اللّحظاتِ الغربيةِ في رسْم لوحاتها المبدعةِ!
* القصيدةُ، هذه السُّنونوةُ الهِلعةُ، والفزعةُ من “حَيايا وأحناشِ السِّياجاتِ المُهمَلَةِ، وبعض الخرائب” تمُّد لسانها، تبلغُ وبِسُخْطِ غرائبي تلك الفراخَ، و”تشْرُقُ” بَدْءَ الحياةِ في بيوضها السّاخنةِ..وقد قيل: “الشّعرُ حُلُمٌ يتخطى حدودَ الواقع، ومَهمَّةُ البحث الشاعر أن يجعَلَكَ في دائرةِ الدّهشة والرّوعةِ، ليس، مَهمَّتهُ البحث عنِ الحقيقةِ، فهذه من مهمّة وعملِ الفيلسوف، والقصيدةُ لا تعني، وإنما تكون”؟!

خضر عكاري
khudaralakari@hotmail.com