ثقافة

صرخة بمواجهة وجع الحرب

في بيانه الذي نشره على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي “Facebook” بعد أيام قليلة من بدء عرضه المسرحي الجديد “نبض”، يؤكد المخرج المسرحي السوري مأمون خطيب أنه لن ينجح يوماً دون الاعتراف بجهد كل من تشرّف بالعمل معه، حيث كتب: “إن كل من ينسب لنفسه نجاح عمل جماعي تم بتضافر جهود الطاقم الفني بكامله، ربما ينجح اليوم، ولكنه حتماً سيفشل غداً”.
من مقولته تلك نبدأ، ليأخذنا “نبض” مأمون خطيب المتجانس إلى حد بعيد مع نبض سورية الأم.. الأم.
أجل، سورية الأم الكبيرة التي عانت الكثير خلال أزمتها بمواجهة الحرب القذرة التي تواجهها بشراسة، وقوة، لتؤكد ثباتها على القيم والمبادئ التي ما تنازلت عنها يوماً، ومن أجدر بالأم لكي تترجم حَمْلَها لكل معاني الحياة النبيلة، واستمراريتها في تقديم الأفضل لأبنائها؟.. ومن الأم الكبيرة يأخذنا “نبض”، العرض المسرحي الذي يعرض حالياً على خشبة مسرح الحمراء بدمشق، ليقدم لنا أنموذجاً صارخاً في معاناة الأم السورية وما تحمله في صدرها من خوف، وقلق، وهواجس تتصارع مع الموت، وتكاد تصرعه أمام صبرها، وقدرتها على العطاء، والحياة رغم كل ما تقاسيه، وإن كنا نرى الموت يخرّ أمامها خاسراً بمواجهة ما تحمله في قلبها من دفء، وحنان، وسخاء، لكنه يقوى في تأكيد حضوره، وعبثه في اختيار من يغيّبه عنا.
من هذا المفهوم، والمنطق نقرأ توجه مأمون خطيب في اعتماده على جعل “نبض” يخص كل السوريين حالياً، كما هو ينطبق على واقع حال الأم في أي مكان وزمان، ما دامت تواجه وغيرها حرباً ظالمة، ولا شك أن تقديم الأم كبطلة في عمل فني، وخاصة في المسرح، يتطلب قدراً كبيراً من الصدق، لما تحمله الأم من مكانة إنسانية في المجتمع رفيعة وسامية، وفي الفن، ليس بالأمر البسيط والهيّن أن تكون الأم محور عمل، كما يخال للبعض، فهو من السهل الممتنع، إن صح التعبير هنا، وفي “نبض” تبدو الأم هي الأجدر لكي تحكي لنا عن واقع وطن عانى ويعاني الكثير، من خلال ثلاث أمهات يجتمعن في حديقة يطل عليها قاسيون، نتعرّف على قصصهن، ومعاناتهن، وعذاباتهن في فقد أحبائهن بالموت، والغياب، والنزوح، في اغتراب ممض بوطن عزيز، تمسَّكن به، ولم يغادرنه.. تأتي الحكاية لتجمعهن، وتكون حامل العرض، وموضوعه، عبر تداعيات حيناً، ومجاهرة بمستجدات الحدث الذي يأخذ تواتراً متصاعداً مع مرور دقائق العرض، من خلال تحدّث الأمهات عبر أجهزة المحمول، لينتهي الحال بالمزيد من الحزن، والدموع في مشهد مؤثر إثر فقد إحداهن لابنها، (الفنانة رنا جمول)، وقد أحاطت بها كل من: (هناء نصور، ونسرين فندي) الموجوعتين أيضاً، وقد كان ملفتاً تمكّنهن من أدواتهن، بحيث استطعن تخطي الخوف والرهبة مع خاصية أدوارهن واجتماعهن في تجسيد دور الأم.
في “نبض” يقف المشاهد على استخدام لغة متميزة في الحوار، مكثفة، عميقة، للدلالة على عمق المأساة التي تعيشها الأم السورية، الأكثر تضرراً في هذه الحرب، لغة واقعية، لا يتداخل فيها أي استعراض لعنصر غريب، أو متخيل عن يوميات الحرب، لغة فيها التعبير الصادق عن تغلغل الحزن في صدور كل من يتحمل تبعات الحرب، لكنها الأم، تبقى دوماً هي الأصدق تعبيراً.
تميز “نبض” على أكثر من جانب لجهة الإخراج، والأداء التمثيلي، والسينوغرافيا، والموسيقا التصويرية، والإضاءة، لكن ربما نجد من يشير إلى حاجة العرض لبعض اللمحات التعبيرية التي تحمل مشاكسة ما للواقع، أو زيادة “الجرأة” في الطرح، لكن يبدو بالمقابل، وعلى ما يمكن قراءته من خلال العرض، أن مأمون خطيب، “كصاحب للنص، ومخرجه”، أراد أن يغلّف العمل بالإنسانية دون الولوج إلى أي معترك آخر، حيث الهم الأسمى هو النبض الإنساني، لا غيره، فهو ما يبقى وما دونه في تغير يفرضه الواقع. في موازاة هذا الطرح الشفيف، والبوح الصادق عبر شخصيات العرض الثلاث، وإزاء هذا الكم الهائل من العاطفة، وصوغها بهذه الطريقة، ومسرحتها، لم يتطلب النص مقترحات بصرية معقدة، فقد استطاع “خطيب” تجسيد فكرته عبر مشهدية بصرية بأدوات إخراجية بقدر بساطتها تبدو ملفتة وعميقة وصادقة، تراها تنسرب بهدوء ورقي، ما يؤكد فكرة العرض، والغوص في الواقع المعاش دونما استعراضات مجانية أو مبالغة تبعد العمل عن الهدف منه.
لا شك أن عرض “نبض” يحمل قيمة فنية وجمالية، لكنه بالمقابل يحمل القيمة الإنسانية الأسمى المعوّل عليها في توحيد النبض السوري، بوصول كل منا إلى ذاته ليتلمّس نبضه الحقيقي الذي لن يشوبه أي تزوير أو زيف، لنرى ما تراه العين في سريرة كل منا، وهو عشقنا لسورية الوطن والأم.
نضال كرم