ثقافة

نبض سورية.. نبض الحياة

سلوى عباس

هامات تعلو على جراحها النازفة، وآمال تتسامى لتطاول الشمس في عليائها، تنسج من خيوطها وشاحاً يرفرف راية بيضاء في سماء الوطن. فمن زحمة الحرب والدمار.. من ضحكة الأطفال المصلوبة على جدران الموت، ومن أحلام تنسج أملاً بغد جميل باغتتها يد القتل، تسجل أمهات سورية كل يوم درساً في مواجهة الخوف على أبناء رأتها قلوبهن قبل أعينهن، أبناء حولتهم الحرب إلى أبطال نراهم يرفعون بأيديهم شارات النصر رغم قصف الصواريخ وهدير الحرب التي تعانيها بلدنا، رجال سورية الشجعان على امتداد مساحة الوطن هم أبناء الحياة الذين هبوا للذود عن أوطانهم.
هكذا تطلّ علينا شخصيات مسرحية “نبض” المستمرة على خشبة مسرح الحمراء بدمشق محملة بواقع الألم والفجيعة، ينبشن من أعماقهن الألم الساكن في الحنايا، فتأتي هذه الشخصيات مرآة لواقع أمهات سورية بفقدهن لأبنائهن في هذه الحرب المجنونة، هؤلاء الأمهات “الفنانات” اللواتي جسدن على خشبة المسرح نبض كل أم سورية، أمهات تتوزع عواطفهن بين حبهن لأبنائهن، وحبهن للوطن فيكابرن على الجرح، ويستذكرن كلام أولادهن الأبطال الشهداء وكيف كانوا ينظرون إلى وطنهم الذي لبوا نداء الشهادة كرمى لعينيه، فنرى أم فادي التي جسدت دورها الفنانة “هناء نصور” مثالاً حياً لأمهات سوريات اللواتي قدمن للوطن أكثر من شهيد فتستذكر بكثير من الفرح الممزوج بألم الفقد جواب ابنها لها وهي تتحضر لزفافه عساه يعوضها فقدان أخويه الشهيدين عندما قال لها: الوطن ينادينا يا أمي، يحتاجنا كيف لا نلبيه، فتتناهبها حالة من التشتت بين قلبها وعقلها، بين حبها لابنها وحبها لوطنها، والثاني هو الذي يغلب.
لقد حضرت في “نبض” سورية بكل مكوناتها الطبيعية والبشرية، فعبر مفردات الديكور البسيطة بدءاً من الحديقة مسرح الأحداث تجلت دلالة المعنى في نبض شارة البث من على قاسيون رمز سورية الأشم كحالة تحدّ أن سورية التي أثبتت عبر التاريخ صمودها في وجه كل معتدٍ، ستبقى نابضة بالحياة، والشجرة التي تعيش خريف أيامها تحولت أغصانها إلى منشر غسيل لثياب مواطنين سوريين هجّرتهم الحرب من بيوتهم فاتخذوا الحدائق سكناً لهم، ستورق هذه الشجرة مجدداً بأحلام السوريين وآمالهم، وفي هذه المساحة التقت الأمهات الثلاث لتناجي كل منهن الأخرى عبر سرد تفاصيل حياة أبنائهن الذين راحوا ضحية هذه الحرب المجنونة، وفجأة تستيقظ في روح كل أم فاجعتها التي تعيشها سواء تلك الأم التي فقدت أولادها جميعاً، أم تلك الأم التي استشهد ولدها الوحيد، وتلك الأم التي هجرتها الحرب من منزلها لتتخذ من الحديقة ملاذاً وحقيبة سفرها فراشاً، ونراها في العمل مأخوذة بالحديث على الجوال تطلب “وحدات” من زوجها الذي تركها وحدها مع ابنتها التي استشهدت أيضاً وانتبهت فجأة أنها تحمل دمية وليس ابنتها لتستفيق على وجعها الدفين وتستذكر أحداث ما جرى معها وتستحضر حالة أبناء جيرانها التوءم اللذين ذهبا كل في طريق مغاير للآخر، وهنا إشارة إلى الشرخ الروحي والنفسي الذي وصل حتى إلى الأسرة الواحدة حيث نرى أكثر من رأي وأكثر من توجه.
لقد لامس العمل وجداننا، ورغم أن ما يحصل في الواقع أقسى وأصعب لدرجة لا يمكن لأي عمل فني أو أدبي أن يقاربه، إلا أن ماجسدته بطلات العمل على اختلاف تجاربهن عبّر عن الكثير من الوجع والألم الذي يعانيه السوريون في هذه الحرب الظالمة، وبشكل خاص أم الشهيد هذه الأم التي تعالت على قلبها، وعلّمت أولادها أن النصر تكتبه الشهادة فأمهات الشهداء يمثلن مدرسة من تضحية وكبرياء في إعداد أبطال رسموا باستشهادهم عزة أمتهم ووطنهم وكل من ينتمي إليهم ويسير على دربهم.
لقد عمل مخرج العمل على مسرحة الواقع، فحمل العمل الكثير من الصدقية والشفافية ليضعنا جميعاً في مواجهة أنفسنا، نبحث عن أجوبة لأسئلة أرهقت أرواحنا ورمتنا خلف عتبة الحياة.. فلطاقم العمل كل الشكر والامتنان على عرضٍ أعطى صورة نابضة بالحياة لسورية أمنا جميعاً التي نهديها قلوبنا، ونضع أيامنا سواراً في معصمها، ونشكل من أرواحنا باقة قرنفل تزين أوقاتها.. فيا أمنا هل تقبلين؟!.