ثقافة

جبران خليل جبران في ذكرى غيابه

أنا بركان صغير تم إغلاق فوهته” جملة أخيرة  لفظها جبران، وهو يغفو
إغفاءته الأخيرة والمبكرة في (نيسان عام 1931) في نيويورك عن عمر ناهز (48) عاماً.
جبران  الذي غزا العالم بأدبه المتميز ولوحاته المنتمية إلى ذاك السحر العذب في انسيابية اللون وعمق الفكرة، يضاف إلى  كل هذا وذاك تلك الروح الطيبة والمعذبة في ذات الوقت، الروح الجريحة الموزعة بين قسوة الأب (الكحولي– راعي الماشية)  وحنان الأم: (كاملة رحمه) التي كانت تعمل ليلاً بالخياطة،  ونهاراً في تعليم مبادئ اللغة العربية والسريانية، في (بشرّي) مسقط رأسه.
كانت أسرته تعاني من الفقر، وهذا ما انعكس على طفولته المتأثرة جداً بالطبيعة الساحرة لـ: (بشرّي) إلا أنه عانى منذ تشكل وعيه على الحياة من الحزن العميق والميل الشديد للعزلة، وتلك الكآبة التى رافقته طوال مشوار عمره القصير نسبياً.
يقول جبران في إحدى رسائله متذكراً طبيعة بشرّي: “أجمل مافي هذه الطبيعة.. هو أن أرواحنا تبقى خفاقة مرفرفة فوق الأماكن التي تمتعنا بها بشيء من اللذة، وأنا من الذين يحفظون ذكرى الأشياء مهما كانت بعيدة ودقيقة، ولايدعون خيالاً من خيالاتها يضمحل مع الضباب، وقد يكون احتفاظي بأشباح الأيام الغابرة سبباً لكآبتي وانقباضي في بعض الأحايين”. ورغم القصص الكثيرة تتحدث عن استمتاع جبران بملذات الحياة، على وجه الخصوص في أمريكا، وإنه حقق نجومية مذهلة في الفن التشكيلي، إلى جانب تميزه بإبداعاته الأدبية وتلك الشهرة التي حظي بها، في زمن قصير إلى حد ما، إلا أن علامته الفارقة كانت تكمن في ذاك السر الخفي المتكئ على جدار الكآبة: في كتابه (النبي) يقول:
“عندما ولدت كآبتي أرضعتها حليب العناية، وسهرت عليها بعين الحب والحنان، وعندما كنا نغّني معاً، أنا وكآبتي كان جيراننا يجلسون إلى نوافذهم مصغين إلى غنائنا لأن غناءنا كان عميقاً كأعماق البحر، وغريباً كغرائب الذكرى”.
ومما زاده حزناً أيضاً في بدايات سفره إلى أمريكا أنه لم يحب الحياة هناك، فرجع إلى لبنان وأقام فيها بضع سنوات ثم رجع إلى أمريكا، ربما حنينه إلى أمه دفعه لفعل ذلك، هذا التنقل ساعده على الكتابة باللغة العربية والإنكليزية.
وأهم نقلة في حياة جبران (كفنان تشكيلي)  كانت في المساعدة التي قدمها له (هولاند داي) حين باع بعض لوحاته لإحدى دور النشر التي اعتمدتها كأغلفة كتب، هذا ما شجع جبران على إقامة معرضه الفردي الأول في (بوسطن – 1904) وفي المعرض تعرف إلى (ماري هاسكل) وهي مديرة مدرسة، شجعته على الفن والكتابة ووقفت إلى جانبه، وحدثت بينهما قصة حب مميزة بقيت سرية لحين مماته، إلا أن الرسائل المتبادلة بينهما كشفت هذا الحب (هذه الرسائل موجودة في مكتبة الجامعة شمال كارولينا)، حين طلب منها جبران الزواج رفضت لأنها تكبره بعشر سنوات. كذلك تبادل جبران ومي زيادة رسائل الحب من دون أن يلتقيا.                 بعد 97 عاماً من رحيله، صدر في بيروت مخطوط لجبران لم ينشر من قبل بعنوان: (اقلب الصفحة يافتى) يضم قصائد ونصوصاً نثرية باللغة العربية بخط يده. توفي جبران في نيويورك (نيسان -1931) وكانت وصيته أن يدفن في مسقط رأسه، وبعد عام من وفاته قامت صديقته ماري هاسكل وشقيقته ماريانا بشراء– دير مار سركيس في بشرّي، ونقل جثمانه إليه وتحول إلى متحف خاص به، كما ترجمت كتبه إلى أربعين لغة.
أحمدعساف