ثقافة

قبلة.. وناعورة وطن.. وهوية عتيقة

سيارتها الفارهة لم تكن تتوقف بين كاليفورنيا وواشنطن، وبطاقات حضور ندواتها على المكاتب وفي الأدراج وبين ثنايا الكتب وفي الجيوب، وهي مرفوعة على الأيدي تطلب مكاناً من منظّم الدخول. إنها سيدة من سورية تعيش في أمريكا منذ تسعة وعشرين عاماً تزوجت من الأمريكان، ودربتهم، نظّمت أوقاتهم وحددت لهم أهدافهم، كانت دوراتها التدريبية تدلّهم على النجاح، على التفوق، كيف يعيشون أقوياء، وكيف يتعايشون أصدقاء.
ولدت في حماه، درست تنمية القدرات في الولايات المتحدة الأمريكية وأسست شركات في الإدارة والتسويق وفي علوم الذات حلُمت، بنَت، ووصلت.. أفردت لها كبريات الصحف الأمريكية مساحاتها وأغنت شاشات التلفزة بإطلالاتها. أما الشيء الوحيد الذي يدلّ على سوريتها فهو في الدرج الأخير من مكتبها مع عشرين ورقة مختلفة عن صباها وحبها، نجاحها، جنسيتها الأمريكية وتكريمين وورقة دراق يابسة كانت في إحدى كتبها من ضفاف العاصي عند الناعورة الثالثة.
وقبل أن أنسى هناك أيضاً شيء آخر هو تاريخ أول قبلة حب كانت دائماً تحلم أن يسألها أحد عنها. أما اليوم  فهاهي كأس الشاي قد أُعدَّت، وحضرت السيارة كي تأخذ الطفل إلى المدرسة وبدأت تُعدّ نفسها للذهاب إلى دوامها كالمعتاد حين صاحت:
هناك من يطلّ برأسه من النافذة، يحمل في يده سكيناً وحرية وقالب حلوى كتب عليه: سورية– يادمشق الياسمين والنوفرة، قصر العظم ومشواراً وحيداً كان بين قاسيون و.. قاسيون.. يانداء بائع الخضرة واللبن والكتب والحب عند شباك سينما الكندي.. ياكراساتي الجامعية في بيت جدي قريبة من محمصة البن عند كيس الزعتر والهال والتبغ البلدي الناعم.
زوجها: لاتذهبي، سورية مشتعلة، ألا تتابعين الأخبار؟
ماسة: (بتّ مرغماً على ذكر اسمها/ الكاتب/) لأن سورية نطقت بها، اجتاحتها، عيونها، علمها، مدنها، بحرها.. وذاك الشيء الصغير الموجود في درج مكتبها الأخير..
جهزت حقائبها وحقائب طفلها وجواباً لزوجها إذا أصرّ على منعها:  هذا كتاب الطلاق وهذا جواز سفري إلى دمشق، تستطيع الاختيار بينهما.
وصلت مطار دمشق، جثّت على ركبتيها، قبّلت الأرض وفاضت عيناها، فاستغرب الولد تصرفها.. عشرة ملايين سوري، جملة رقصت أمام عينيها، يجب أن أدرب عشرة ملايين سوري، قالتها مرارا، يجب أن أدربهم على العيش، على النجاح، على الحب، تحديد الأهداف، الطاقة، والاستماع.. لم يكن شيء ليقطع ترديد هذه العبارات بينها وبين نفسها إلا جملة قالتها لموظف مكتب النفوس وهي تُخرج الشيء الصغير الذي كان موجوداً في درج مكتبها الأخير: أريد أن أجدد هويتي السورية فهي من عام 1981.
حسن محمود حسن