ثقافة

“أغمض عينيك لترى”.. فضاءات القول الشعري في مساحات العشق وظلاله المضيئة

في البدء كان الشعر مغامرة الأقاصي والتخوم، لعل المغامرة بذاك المعنى، الذي ظل في قلب الشعراء حارس بوحهم، ما تنطوي عليه ماهيتها، ليس لحساب الشكل والمضمون وما تواضعنا عليه في حقلنا النقدي بالتقنيات المصاحبة، بل لطبيعة الرؤية التي تأخذ القول الشعري في جزئياته وكلياته وبؤره المشعة إلى مساحات أخرى أكثر رحابة وأدل حرية، من شأنها أن تجعل الشعر على الدوام سؤال الذات الشاعرة التي يحايثها الكون والآخر، الرجل كثيفاً أو مختزلاً، لتدلل الأفعال العشقية الكاملة على سفر في الرؤية أولاً، ومرونة في التشكيل اللغوي الذي يتوسل على الدوام القبض على لحظة الشعر الهاربة وتقطيرها في اللا قالب، وفي المضمون الذي سيصبح شكلاً، وفي المعنى الذي تنتجه بمشيئة اللغة وانفتاح حدوسها لتدنو من متخيلها بعلامة واقع ما سوف يصبح واقعاً جديداً لطالما نبض في قلب الفن، فبعد مجموعاتها الشعرية الأولى “خطيئتي” تستمر الشاعرة جولييت أنطونيوس في ارتكاب قصائدها عن عمدٍ ودرايةٍ لتشي بأزلية موضوعٍ، وكيف تعيد اللغة تشكيله ليغدو محكيه لافتاً في مركبه السرد الشعري وتنوع إيقاعاته وضروب تشكيل المعنى مداورة أو تصريحاً ناجزاً، فما يستبطنه القول الشعري هنا في لحظاته الكثيفة النصوص هو الأكثر دلالة في قراءة ذاتٍ شاعرة تلون فضاءات سردها بممكنات شعرية القلب والرؤية والحواس، والأمكنة الحميمة وعلى الأرجح استدعاء تاريخ متصل منفصل في آنٍ معاً، ليصبح هو بذاته علامة المشتهى والمحلوم به. فليس الشعر استدعاء لآخر، بل هو ضرب من كتابة المحو والإثبات، لصيرورة شعرية تحفر في أزمنتها وأمكنتها وذوات شخوصها لتمنح المغامرة وعلى مستويين: دراما اللغة والحدث الشعري، فما تضيفه الشاعرة إذاً وفي فضاء متخيلها هو ما يثري لغةً تتطير من بلاغة القول الخارجية لتمنحها بلاغة داخلية وربما استبطن على نحوٍ لافت النزوع الصوفي الذي تتبدى دلالته في ذلك العنوان الأثير “أغمض عينيك لترى”، أبعد من تشكيل غواية لذاتها سوى غواية الشعر عشقاً والعشق شعراً، تقول الشاعرة “في تاريخ العام الجديد تشبهني أما الحب انتحل هويتي لون عيني وحروف اسمي، ذلك المولود قبل الولادة طفل روحي لايشبهني إنه أنا.. نفسي يولد مني لأولد منه كل عام”، وتقول أيضاً في نصها أغمض عينيك: “قد يختفي القبح خلف الجمال أغمض عيني لأعيد ترتيب الأشياء على بصيص نور آخر/ عندما أغمض عيني لا شيء يكبلني، لا شيء يخدعني في هذه المساحة الصغيرة أتجرد إلا من نبضي وذلك النور البعيد من هذه المساحة يمكنني أن أكسر قيود المكان أسافر إلى أقاصي الأرض وأعود.. لا شيء يمنعني من التحليق عالياً”.
في النصوص الكثيفة تتصادى ثنائيات لكنها كما سيرورة الشعر تذهب للغة جميلة ليس باستواء اللفظ والشكل فحسب، بل في أناقة عمارات الروح في لحظة إنشادها وتناغمها مع ما يستطيع القلب بوحه وأصابع اللغة رسمه ملوناً ليشي بجمالياتٍ كما هي أناشيد البراءة الخالصة لكنها الأكثر قدرة على أن تشكل خصوصية وفرادة ونقاء صوت أراد أن يحفر مجراه على مرأى من اللغة ذاتها.
ليس العشق أن تكتبه فحسب بل أن تفعله إبداعاً مختلفاً ولعل في ائتلاف المختلف ما يخص الروح لتسرد أو تروي فتبني إيقاعها، حسبه أنه إيقاع رؤية لا سيما في تلك الذرا المفتوحة التي جاءت في خواتيم النصوص الشعرية المفتوحة بدلالة زمنها الخاص والكلي، تضيف الشاعرة بمتونها الحكائية ما يمنح القصائد قدرة على أن تظل بتوقيعها وومضاتها الخاطفة أبعد من همس عابر وأقرب لتأليفٍ يعيد تركيب القصائد في مرمى تأويلٍ منتظر، ببكورية اللغة ودلالتها العميقة يحضر المعنى كناتجٍ توزعه القراءة لتتقرى في تلك المغامرة عديد العلامات في لا نهائية القول الشعري الذي جعل من الشعر فضاءات لأسئلة أخرى لا تتوسل نقطة النهاية حسبها الفرح بالمشتهى والاختراق لما كان مألوفاً.

الكتاب: أغمض عينيك لترى
الكاتبة: جولييت أنطونيوس
الطبعة الأولى: 2014
صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة –بيروت

أحمد علي هلال