ثقافة

“فرقة الدراويش” تمضي قدماً في الحفاظ على تراث يوشك أن يندثر

كما هو معروف أن اللوحة المولوية هي سمة من السمات التي تمتاز بها الفرق التي تختص بالإنشاد الديني، ولكن وجودها في فرقة الدراويش الشامية برفقة موسيقا ذات آلات مختلفة، والتي تفتقدها أغلب مثيلاتها من الفرق، أضاف لها طعماً آخر، ولاسيما بوجود طفل لا يتعدى الخامسة من عمره، وخاصة أن هذه الرقصة تعد الأصعب في هذا الشكل من الفن، حيث يصل المرء فيها إلى مرحلة الفصل بين الروح والجسد..
وأصحاب الدراويش يقلدون طريقة الحضرة المولوية التي سار عليها جلال الدين الرومي، وتعتمد على الفصل بين الجسد والروح، هكذا شعر الرومي بتأثير الموسيقا ودخولها إلى أعماق الإنسان، ومن ثم تعمل ذلك الفصل، فاعتمد بأن يكون لديه شيء اسمه (سمع خانة) والذي نسميه اليوم (مكان السمع) وهنا كانت تدخل المولوية.. ومن المعروف أن من يسمع مقطوعة موسيقية جميلة يصل إلى مرحلة الطرب، ويرى نفسه وهو يتحرك لا شعورياً مع نغمات الموسيقا.. والرومي استغل هذا، ووجّه مريديه بأن يكون الرقص دائرياً مع الذِّكر، فكانت الحضرة المولوية، وفرقة الدراويش اليوم تحاول أن تظهر المولوية بشكلها الجميل للمتلقي، إضافة إلى مشاهد من هذه اللوحات..
قدمت الفرقة المذكورة، خلال أمسيتها مؤخراً في قصر العظم الأثري بدمشق القديمة، مجموعة واسعة من الإنشاد الديني والأندلسي، بتناسق وتجانس واضحين بين أعضاء الفرقة من خلال التوزيع الموسيقي بين الآلات والغناء، وذلك بوضع خلفية موسيقية بما يشبه الهارموني في كل قطعة موسيقية، بقيادة مؤسسها الموسيقي صلاح عربي القباني، ومشاركة المنشد عبدالرحمن عبد المولى، بصوته الجميل والرائع،  حيث يحوي القوة والمساحة الواسعة، وذلك ضمن فعاليات أيام التراث السوري التي أقامتها وزارة الثقافة.
كعادتها اختارت الفرقة مجموعة كبيرة من الموشحات والسماعيات والبشارف مثل وصلة “بيات” منها: موشح يا رسول الله أنت المرتجى، موشح هيّج الأشواق، وصلة “راست” منها موشح يا نسيمات الخزامى، موشح هي شمس بدت..، وصلة “صبا” منها موشح كؤوس حبك، موشح مالي إذا صال الوغيد، موشح في بطون وظهور..، وصلة “حجاز” منها موشح فيك كلما أرى حسن، موشح سل فينا اللحظ هنديا، موشح هجرني حبيبي…، ولم يأتِ اهتمام الدراويش بالموشح عبثاً؛ حيث يعد الموشح من أشهر المؤلفات الغنائية التقليدية، ويدخل في عمق تراثنا العظيم، وقد نشأ في الأندلس منذ أكثر من ألف عام، وهو أغنية جماعية سميت بهذا الاسم نسبة إلى الوشاح الذي كانت تتزين به المرأة في تلك الفترة، لتشابههما في التحلي بالزخارف.. كان الموشح يكتب باللغة العربية الفصحى، ثم بدأت الألفاظ العامية تدخل فيه، وهو لا يرتبط بميزان شعري واحد مما يضفي عليه حرية التلوين، وقد ابتكر الموشح في الأندلس “مقدم بن معاف القبري” و”عبادة بن القزاز”.. وأدخل المصريون في القرن 19 إلى الموشح بعض الألفاظ التركية (أمان، عمرم، جانم..)، يتكون الموشح عادة من ثلاثة أقسام هي:  البدنية، وتمثل بدن الموشح أو جسمه، الخانة، وتصاغ ألحانها من الدرجات العالية الحادة، وذلك لإظهار براعة المغنّي المنفرد مع مجموعة المنشدين، ومن ثم القفلة، وهو نفس لحن البدنية، ولكن مع اختلاف الكلمات والمعاني، كما نجد أحياناً بعض الموشحات تتكون من بدنيات فقط.
جاءت أمسية “الدراويش” هذه منوعة بين الغناء الديني “الأندلسي، العربي” وهذه بادرة للحفاظ على هذا التراث العظيم الذي بدأ بالاندثار، وإظهار الموسيقا والغناء الديني والموشحات للناس مجدداً، حيث أن الموسيقا الجديدة وأشكالها الكثيرة طغت على هذا التراث الذي يضرب بعمره عمق التاريخ، حتى وصلنا لدرجة الخوف على الإطاحة بكل ما هو جميل من تاريخنا الموسيقي والفني.
ومن الجدير بالذكر بأن تشكيل فرقة الدراويش الشامية كان بداية عام 2008  وتقوم بعزف أعمال وتدوين نوتات الموشحات الدينية والأندلسية إضافة إلى الأعمال الموسيقية التراثية والفنية الأصيلة من سماعيات ولونغات وبشارف ودواليب، وذلك بهدف إعادة إحياء التراث الثقافي والديني والفني، وإظهاره بالمظهر اللائق وحفظه من النسيان والضياع وبما لا يتنافى مع أعرافنا الدينية والإسلامية، اعتمد تشكيل هذه الفرقة على أصحاب المواهب وذوي الخبرة والأعمار الكبيرة، لتتم إعادة تدوين هذه الأعمال بالشكل الصحيح، وكما تناولوها عن سابقيهم من الفنانين القدامى، وكان الفنان الراحل عدنان أبو الشامات مشرفاً رئيسياً على أعمال هذه الفرقة.
إدريس مراد