ثقافة

السوريون يلبــون نــــداء قلبهـــــم

ما من يوم مر ويمر على السوريين، وهم في المحنة القاسية التي تمر بهم، إلا وتجعلك تصرفاتهم، وطبائعهم تدرك، مهما كنت غريباً عنهم، أنهم أبناء الحياة، وثقافتهم في هذا المذهب هي الانتصار للحياة، حتى والموت يهشم أيامهم، معرفة قيمة الحياة، وندرتها، وتقديرها، حتى لو جلس الموت بين اثنين منهم كالطاولة، إنهم يخلقون السبل إليها، ولا ينتظرون الأسباب المواتية فقط، يبتكرون أسبابهم الخاصة للفرح، نزهة عائلية بسيطة في مرج أخضر يُطل على شارع عام، تدور على مقربة منه حروب طاحنة، شارع الحمراء وهو يحتضن كل يوم فوق أرصفته الفتيات السوريات الفاتنات، وهن يتغاوين كالنيازك بحسنهن السوري البديع.. الناس المتحلقون حول محل صغير في الحجاز يصنع “كنافة نابلسية” لا مثيل لها في العالم، يأخذونك معهم لتدخل، مترافقاً وصخبهم إلى شارع الحميدية، «تتناوق» عليك عيون الضوء من سقف السوق المثقوب، تدعوك العضلات المفتولة، والابتسامة العريضة للعامل الذي يدق البوظة في بكداش، لتتذوق ذكريات بعيدة وسعيدة، ثم يغمرك البهاء والجمال، وأنت تدلف بصحبتهم من آخر “قنطرة” بالسوق صوب “أبهة” الجامع الأموي، والحمام الذي يغطي باحته، يطير أمام ناظريك كالحلم، ليستقبلك، تترجل روحك عن جسدك عندما تدخل فسحة الأموي، ترى السماء وكأنها فُصلت خصيصاً له، يسحرك صوت المؤذن وهو ينادي على الناس، أن تعالوا هي ساعة ربكم.
منذ مدة قريبة، لبيت دعوة من صديقة، للمشاركة في أمسية شعرية، في أحد أزقة باب شرقي، الحي الذي تعرض ويتعرض يومياً لعشرات قذائف الغدر، البيت الدمشقي الذي أقيمت فيه الأمسية، اكتظ بالناس، صخب، وضحك، وكؤوس شاي تروح، وأقداح نبيذ تعود، أصوات النار لم تتوقف طيلة الأمسية، إلا أن الناس لم يكونوا عابئين بها، كانوا مستمتعين فعلاً بالموسيقا، والغناء، والشعر، ونحن خارجون بعد انتهاء ذاك الاحتفال البهي بالحياة، سألتني صديقة: ألا يخاف الناس هنا؟ وسؤالها مبرر، ورغم استغرابي له، أخبرتها بأن حياة السوريين ليست شأناً عاماً، تفاصيل يومياتهم قد تكون مليئة بشتى صنوف الحزن، والقهر، والتعب، ولكنهم لن يفوتوا أبداً أن يستنشقوا الحياة، من أي مسرب عبرت نسائمها، إنهم يا صديقتي يحتفلون بالشمس والمطر، بالربيع والشتاء، بعرنوس الذرة المسلوق، وثمرة “العوجة”، بالحياة والموت.. شعب كهذا لا تموت روحه أبداً، نعم هو ييئس أحياناً، يتألم، ويكاد ينفجر، لكنه عصي على الموت.
الغريب فعلاً أن العالم، “من يناصب سورية كل هذا العداء”، لا يريد أن يعرف، أو أن يدرك أن الشباب الذين يذهبون إلى الموت، إنما يفعلون ذلك دون الرجوع لأيديولوجيات معقدة.. إنهم ببساطة لا يستطيعون أن يتفرجوا على معشوقتهم وهي كسيرة القلب، هؤلاء لا يستعذبون رؤية دمائهم على قمصان أعمارهم اليانعة كرمى لأحد، إنهم يلبون نداء قلبهم.
هذا ما قاله لي أخي، الشاب الثلاثيني الذي استشهد في إحدى ساحات الوغى، قال لي عندما سألته: ألم تتعب؟ قال: إنني ألبي نداء قلبي.
هو نداء القلب إذاً للحياة، كما للموت في سبيل الكرامة، ولكن لا يتشابه أبداً، من تُدار عنده المنايا، مع من تُدار عنده الشمول.

تمام علي بركات