ثقافة

رحل ظافر السرميني بعد أن قدم الكثير لفناني حلب

الرحيل موجع دائماً يؤجج آلام الفقد ويزيد مساحة الفراغ ويعزز أنين الحنين دون أمل بالرجوع فكيف إذا كان الراحل الفنان التشكيلي ظافر السرميني ،الذي عمل على تطوير الحركة التشكيلية في حلب وإطلاق اللوحة الحلبية إلى العالم من خلال مشاركة الفنانين في مختلف المعارض داخل القطر وخارجه ،أمضى حياته في دعم فناني حلب وقدم لهم الكثير وكان صاحب الفضل في تأسيس فرع لنقابة الفنانين التشكيليين في حلب ،الذي أصبح فيما بعد فرع اتحاد الفنانين التشكيليين في حلب ،ونجح في إنشاء مراسم فتحي محمد بمقاييس عالمية ،وتابع مسيرته الإبداعية رغم تفرغه للعمل النقابي والإداري إضافة إلى نشاطه الحزبي فكان من الفنانين الذين فتحوا مداخل  للواقعية الجديدة الممزوجة بإحساسه ورؤيته الجمالية فبدت لمسات الانطباعية واضحة تماماً في لوحات الخلويات الطبيعية في حلب وما حولها مركزاً على اللون وانعكاسات الإضاءة على اللوحة ،فتميز بعضها بتوهج لوني يشبه ألوان طيف قوس قزح ،في حين بدت الأخرى متقشفة تعتمد على الألوان الترابية وفق طبيعة المنطقة، وفي منحى آخر استهوته المدينة القديمة فجسدها بأسلوبية تسجيلية فرسم حارات حلب وأسواقها وناسها مظهراً كل ما تحمله من عبق التراث والأصالة ،الأمر الهام الذي اشتغل عليه ظافر حينما أوجد تقاطعات بين المدن المعشقة بالروح العربية مثل غرناطة وطليطلة وفالنسيا ومدينة حلب القديمة ،كما رسم الكثير من الموضوعات الاجتماعية ،وخلال مراحل حياته تدرج في المناصب الإدارية فعمل رئيساً لمركز الفنون التشكيلية في حلب ومديراً لصالة تشرين وعضو مجلس إدارة نقابة الفنون ورئيس فرع نقابة الفنون الجميلة ثم رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين في حلب وكان رئيس مجلس إدارة جمعية أصدقاء فتحي محمد وحاضر في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية ،وشارك في مختلف المعارض داخل سورية وخارجها ،وتقديراً لإبداعه حصل على عدة شهادات تقدير وفاز بكأس الفائز الثاني في عربات القطن لعام 2003،وجائزة الباسل للإبداع الفني من مجلس مدينة حلب لعام 2005. ارتبط بصداقة قوية مع فناني حلب مثل سعيد طه وسعد يكن ووحيد مغاربة ،وهو الأخ الأصغر للفنان د. علي السرميني.
البعث توقفت مع عدد من الفنانين الذين رافقوه في مراحل حياته.

له الفضل في تأسيس الاتحاد في حلب
ارتبط د. حيدر يازجي رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين بصداقة عميقة مع الراحل ظافر السرميني طيلة سنوات ،إذ جمعهما المكان في بداية الطريق ثم شاءت الأقدار أن يتابع الراحل مسؤولية اتحاد الفنانين التشكيليين لفرع حلب فيقول يازجي: بداية جمعتني المصادفة بظافر فحينما كنتُ مدرساً للتربية الفنية في حلب كان أحد طلابي ولفت انتباهي منذ البداية فأردتُ أن أساعده قدر ما أمكن ليصبح فناناً موهوباً ،وفعلاً عمل ظافر بجد ونشاط ،وبدأت مسيرته الحافلة بالحب والعطاء من عمله في وزارة الثقافة في مديرية الفنون الجميلة في مدينة حلب، وكانت له أيادٍ بيضاء في هذا المركز الذي اعتمد على تدريس المنهجية الفنية للفنانين السوريين وغير السوريين مثل الفنان المرحوم فتحي محمد والذي سمي المركز باسمه فيما بعد والمرحوم إسماعيل حسني ومجموعة من الفنانين ،وقد أشرف عليهم الراحل ودرسهم  الفنون التشكيلية وفق مختلف المدارس والتجارب الإبداعية ،وفي منحى آخر عمل على إقامة المعارض كونه مديراً لمركز الفنون التشكيلية في محافظة حلب، وتابع عمله في تطوير وإغناء الحركة التشكيلية فيها ،لكن النقلة النوعية في عمله الإداري والمحطة الكبيرة كانت حينما طلب من النقابة في دمشق آنذاك مساعدته بإقامة فرع لها في حلب ثم عمل بجهد كبير على تأسيس البناء ومن ثم الإشراف عليه وتجهيزه ،كما ألحق البناء بصالة خاصة للمعارض سميت صالة تشرين إضافة إلى صالة وزارة الثقافة ،وبذلك يعود له الفضل بتأسيس فرع نقابة الفنانين التشكيليين في حلب الذي سُمي فيما بعد اتحاد الفنانين التشكيليين في حلب ،ومنذ ذاك الوقت  حتى قبيل وفاته كان يقيم النشاطات ويشارك بالفعاليات وكنتُ أتواصل معه بشكل دائم من موقع عملي ،وحقيقةً أعدّه من الفنانين الذين اهتموا بالعمل الإداري وقدموا كل ما يمكن لإنجاح مسيرة الفنّ التشكيلي في حلب .وفيما يتعلق بالقيمة الفنية التي أضافها الراحل إلى الحركة التشكيلية تابع د. يازجي :لاشك بأنه كانت له بصمات إبداعية لكنه لم يلتزم بهذا المسار لأنه كان منهمكاً بالعمل الإداري ،وباسمي وباسم كل الفنانين نقول رحم الله الفنان ظافر وسيبقى بين زملائه اسماً عطراً في مجال العمل الإداري والإبداعي .

عمل لمصلحة الفنانين
ويشارك الفنان أنور الرحبي بالحديث عن العمل الريادي الذي قام به الراحل فيضيف “ظافر السرميني أحد فناني الجيل الثالث الرائد في مجال تطوير الحركة التشكيلية، اهتم بالبحث عن المواهب الشابة وتنميتها وتعميق قدراتها في الفن التشكيلي ،الفنان ظافر كان طاقة كبيرة تستحق كل الاحترام والتقدير وسيبقى ماثلاً في أذهاننا ،لأنه كان قريباً من الفنانين وعمل دائماً لمصلحتهم وسعى لنشر الثقافة الفنية التشكيلية في حلب من خلال مشاركة الفنانين بمعارض دمشق ،والأمر اللافت أنه استطاع أن يجعل الحركة التشكيلية في حلب تأخذ مشهداً جديداً ،وعلى صعيد الإبداع الشخصي استهوته الخلويات الطبيعية فاشتغل على رسم المناظر الطبيعية و الموضوعات الاجتماعية المستمدة من روح المدينة القديمة من خلال مادة (الكواريل).
خلصني من همجية الإرهابيين
ومن أصدقائه المقربين الفنان سعد يكن الذي ارتبط معه بصداقة حميمة بدأت منذ دراستهما في مركز الفنون التشكيلية واستمرت حتى وفاته واتخذ حديثه بعداً إنسانياً: ظافر كان ودوداً محباً للحياة شُغف بالفن التشكيلي ولعب دوراً كبيراً في تطوير حركة الفن التشكيلي في حلب وفي رعاية الفنانين وكان مخلصاً لعمله وأصدقائه، وهو شخص إيجابي ،وهذا ما جعله دائماً يفكر بمشروعات فنية وإقامة معارض ومحاضرات وكان يناضل ويعمل ليحقق للفنانين أشياء مهمة، وما أن بدأنا بتحقيق حلمنا وتنفيذ مشروعاتنا اشتعل فتيل الأزمة واستولى الإرهابيون على المراسم وأحرقوا لوحات ظافر ولوحاتي ولوحات كل الفنانين وعاثوا فساداً في المكان الحالم الذي أسسه ظافر، وكان له موقف لاينسى تجاهي حينما أنقذني من همجية الإرهابيين بعدما تم اختطافي أثناء عودتنا من المراسم إلى حلب وكنتُ برفقة ظافر ،وقد رفض أن يعود إلى حلب، وتمكن بفضل اتصالاته وتفاوضه مع عدة جهات من تخليصي وكنتُ بحالة يرثى لها ،ورغم أنني رفضت أن أتكلم عن هذا الأمر لوسائل الإعلام حينها إلا أنني أجد نفسي مضطراً الآن أن أتكلم ليعرف الناس جزءاً من مواقف ظافر الإنسانية وأخلاقياته النبيلة. وعن خصوصيته الفنية يضيف :ظافر من الرسامين الذين اشتغلوا على رسم الطبيعة بواقعية فكان يأخذ أدواته ويرسم المشهد مباشرة وهذا واضح بالعفوية الانطباعية البادية في لوحاته ،وكان من الفنانين الذين اهتموا بالمدينة القديمة فمضى مع هذه الموجة الفنية السائدة ،فجاءت لوحاته أشبه بأبحاث تسجيلية تصوّر للعالم حضارتنا وتراثنا وأصالتنا، أما من حيث التقنية فظافر ملوّن من الطراز الأول اعتمد على اللون وانعكاسات الضوء ،وقد أثر بطلابه ووجههم نحو المدينة والتراث والحضارة.
أوجد تقاطعات بين فالنسيا وحلب
ومن أصدقائه أيضاً الفنان سعيد طه الذي رافقه طيلة حياته ودرّسا معاً في جامعة حلب تحدث عن فنّ ظافر برؤية تحليلية :شُغف ظافر بحبّ الطبيعة وجسدها بانطباعية خاصة في لوحاته فأنسن الطبيعة ورسمها بإحساس تعبيري ينحو نحو انطباعات تأثيرية ولمسات رومانسية، يبدو فيها المزج بين المدارس واضحاً موظّفاً رقة الريشة ومبتعداً عن حدة السكين ،وهذا ما نلمحه في لوحاته عن سلمى والكرت والغنيمية وبالة ،وكانت ألوانه مستمدة من ألوان الطبيعة وما يميزها اللون الترابي المشابه لترابة حلب وهي الترابة الحمراء المنتشرة في القرى، كما تناول ظافر الطبيعة في إسبانيا فرسم مشاهد من طبيعة فالنسيا وقرطبة والحمراء وطليطلة هذه المدن المعشقة بالروح العربية فأوجد تقاطعات بينها وبين عمارة المدينة القديمة في حلب ،لاسيما أنه رسمها بطريقة تسجيلية فجسد منازلها وأسواقها وحاراتها المشغولة بأصالة التراث ،ظافر كان قريباً بفنه من الناس استهوته ملامح الناس البسطاء الذين يعتاشون في أركان الحارة فأخذ بانوراما كاملة للحارة بجدرانها ومنازلها وسكانها وورودها كما في حارات الأصيلة والعقبة والجلوم. ورغم أن لكل واحد منا  مساره إلا أننا ارتبطنا بحب الحياة وجمعتنا اللغة التشكيلية بكل مفرداتها وأدواتها.

نقابياً وإدارياً ناجحا
وفي نهاية المطاف تحدثنا مع شقيقه الدكتور علي السرميني فقال :ًأنا مؤمن بقضاء الله لكن وفاة ظافر آلمتني كثيراً فهو أخي الأصغر وتوءم روحي وصديقي ،تجمعني معه ذكريات المنزل القديم ،وتتوالى أمامي صور متلاحقة لمحطات العمر في الطفولة والشباب ،تأثر بفني وتسرب إلى داخله عشق اللون والريشة .ورغم أنني انتقلتُ إلى دمشق بعد الثانوية وبقي هو في حلب إلا أننا بقينا على تواصل وشاءت الأقدار أن يكون طالبي حينما كنتُ معيداً ،ثم افترقنا ثانية عندما سافرت إلى ألمانيا ومرت سنوات العمر، وبقي ظافر قريباً مني تهفو روحي إليه لحظات السَكَن ،والمفاجأة القدرية أننا اجتمعنا من جديد في خريف العمر حينما كنت عميداً لكلية الفنون الجميلة في حلب وكنّا نتناقش طويلاً حول العمل النقابي والنشاط الحزبي خلال جلساتنا ،ظافر كان دائم الحركة طاقة لاحدود لها يملك عقلاً حضارياً وإرادة قوية جعلته ينجح في تأسيس فرع لنقابة الفنون في حلب ،وينشئ مراسم فتحي محمد وينشر الثقافة الفنية التشكيلية في حلب، دعم الفنانين الشباب والأطفال ،كان يبحث عن الموهوبين في مناطق نائية وخاصة في مناطق الأكراد ويقيم دورات تدريبية في المراكز الثقافية على مساحة حلب، فكان إدارياً ناجحاً ونقابياً بامتياز، وعلى صعيد عمله الإبداعي رسم الكثير من الموضوعات الاجتماعية والمناظر الطبيعية واستهوته حلب القديمة ربما نختلف بالأسلوبية الفنية إذ اعتمد على الواقعية التسجيلية وأنا على التعبيرية، إلا أننا نلتقي بحبّ الطلاب والقدرة على العطاء وعشق حلب القديمة وذكريات خلّفها شريط العمر ،وبكل الألم الذي يعتريني أقول :أفتقدك.
مِلده شويكاني