اقتصاد

البقاء آخر اهتمامات “الخاص”.. ومبالغته في الأرباح نقطة ضعف يستثمرها “العام” بشطارة اعتماده سياسة الأسعار المرتفعة.. يرفع من تنافسية بضائع “التدخّل الإيجابي” الماضية باسترداد مجدها المسلوب

ما يؤخذ على سياسات القطاع الخاص السوري في جانب التسعير اعتماده على تعظيم الأرباح لا بل سعى الكثير منهم خلال الأزمة إلى تحقيق مكاسب عالية، وكانت على ما يبدو ضمن الأهداف الأساسية لضمان بقاء مؤسساتهم الإنتاجية والتجارية، ومن أجل تسديد الالتزامات المترتبة عليهم، ومن الملاحظ أن معدلات الأرباح تفاوتت حسب أولوية هذا الهدف بالنسبة لبقية الأهداف الأخرى التي لا تقل أهمية عنه مثل الجودة وحجم الطلب والعرض.

معادلة الربح الذكي
وبعيداً عن مناقشة الجوانب الضاغطة والناظمة لآليات التسعير من مراقبة وعقوبات، والتعمّق أكثر في قضايا تسويقية وترويجية تعدّ بوصلة الشركات الإنتاجية في العالم من حيث التسعير والجودة؛ يعتبر هدف البقاء أو الاستمرار وتوسيع الحصة السوقية الهدف العام لأغلبية الجهات الإنتاجية والخدمية في الدول المتقدمة حتى لو تحمّلت بعض الخسائر على المدى القصير في سبيل تحقيق هذا الهدف، ويعني هذا الهدف أن يكون السعر مرناً قابلاً للتكيّف مع الأوضاع التنافسية في السوق، وهذا الفكر التجاري افتقده صناعيونا وتجارنا في الماضي وتم تجاهله خلال الأزمة كلياً، وقد يكون سبباً رئيسياً لظهور مؤسسات التدخل الإيجابي (الاستهلاكية، والخزن والتسويق، وسندس) من جديد التي تعمل بعقلية مفادها: أرباح قليلة تؤدّي إلى مبيع كميات كبيرة والأهم تسويق وترويج المعروض لزيادة الطلب واستمراره.
كان يفترض أن تُتبع هذه الاستراتيجية من القطاع الخاص الإنتاجي والتجاري أيضاً، لأن القدرة الشرائية للمواطن تراجعت وفي هذه الحالة الاقتصادية كان على القائمين عليه اللجوء إلى تخفيض الأسعار لمقابلة الطلب المنخفض، وبشكل استراتيجي يعتبر البقاء كهدف أهم من الأرباح وخاصة أن المنافسة في الأسواق تراجعت، والحاجات ثابتة، وأذواق المستهلكين باتت محدودة، وذلك بحكم أزمة غيّرت من الأولويات لمصلحة المتطلبات الأساسية، وبالتالي تعالج هذه الحالة من خلال تخفيض أسعار السلع والخدمات بشكل معقول لخلق تدفّق نقدي يساعدها على البقاء في ظل هذه الظروف.

البعد الزمني للأسعار
الواضح بعكس ذلك تماماً، أن مفهوم تعظيم الأرباح كان سائداً في أسواقنا وتبيّن بشكل جلي خلال النصف الأول من العام الماضي، ليستقر لاحقاً ولكن عند مستويات مرتفعة، وحاول المنتجون والتجار تعظيم أرباحهم من خلال تقدير حجم الطلب والتكاليف على أساس مستويات مختلفة للأسعار، وبالتالي اختيار السعر الذي يحقق أكبر قدر ممكن من الأرباح لدرجة تراوح فيها العائد من الاستثمار بين 40 و50%، وهي نسب تعدّ عالية جداً بالمقاييس العالمية لأن العائد من القطاع الصناعي يفترض ألا يتجاوز 25% في ظل تحقيق نمو في الاقتصاد، وفي أوقات الأزمات يتقلّص إلى ما دون 15%.
ويجب أن تسعّر السلع والخدمات بناءً على البعد الزمني، لأن الاستراتيجيات التسويقية التي تحقق أرباحاً على المدى القصير تكون خطرة على تحقيق أرباح على المدى الطويل بسبب ردّات فعل نفسية سيئة من المستهلك تجاه المُنْتَج ستظهر رويداً رويداً عندما تبدأ الأزمة بالانتهاء، وبذلك يكون احتمال انخفاض الطلب عليها أكبر حتى لو تراجعت تسعيرتها وتحسّنت مواصفاتها، على اعتبار أن مؤشر الثقة بالمُنْتِج وببضاعته بدأ بالهبوط.

ما فشل به الخاص
نحن هنا نستند على مقارنة جزئية بين منافذ بيع القطاع العام والأسواق الخاصة، رغم محدودية انتشار الأولى إلا أنها حققت رواجاً وتسويقاً لا بأس به خلال زمن قياسي رغم غيابها شبه التام عن المشهد التجاري السوري لفترة طويلة من الزمن، وذلك لاعتمادها سياسات استراتيجية في التسعير، منطلقة من تقليص التكلفة إلى أقصى حدٍّ ممكن لتحقيق ربحية جيدة على المدى البعيد، واتباعها لاستراتيجية “الأسعار المنخفضة” مازالت تطبقه مؤسسات التدخل الإيجابي بحذر شديد، ونجحت إلى حدّ ما في تسويق وترويج المعروض في صالاتها، وهو ما فشل في تطبيقه القطاع الخاص، بحيث استطاعت هذه المؤسسات أن تركز الانتباه على نوعية السلع والخدمات والمنافع التي يحصل عليها الزبون عند مقارنتها مع مثيلاتها في المنشآت المنافسة في السوق، وعلى هذا الأساس توجب تنبيه الفعاليات الإنتاجية والتجارية الخاصة بأن يأخذوا بعين الاعتبار باقي عناصر المزيج التسويقي لغرض تجنب المخاطر التي تنشأ عن المنافسة.

حسابات الجودة
بالمقابل لابد من التذكير بجانب في غاية الأهمية، بعيد كل البعد عن حسابات الظروف والمكان، وهو أن إدراك الزبون للجودة العالية في المُنْتَج يجعله مستعداً لدفع أي سعر ليحصل عليه، ومن المعروف أن بعض المؤسسات الإنتاجية والخدمية تستخدم السعر لإنجاز هدف قيادة كلفة المُنْتَج، والذي قد يكون من غير الملائم وضع سعر متدنٍّ – ويعتمد ذلك على مدى الجودة كما أشرنا سابقاً – وبالتالي تطرح بعض المنشآت مواد وخدمات عالية الجودة ناتجة عن استثمار عالٍ وتكلفة كبيرة وأيدٍ عاملة كفوءة، وتقدم سلعها وخدماتها بشكل راقٍ إلى زبائنها بأسعار عالية تتلاءم مع طبيعة وجودة المُنْتَج والخدمات المقدمة.
ما يمكن التوصية به في ظل الأزمة التي تمر بها البلاد، أن يسعى المُنْتِج إلى تخفيض التكاليف ما أمكن لاتباع سياسة الأسعار المنخفضة لتحافظ على أسعارها التنافسية وتحقق عائداً عالياً على الاستثمار، وفي هذا المجال لابد من التطرق إلى أنواع التكاليف، وهي التكاليف الثابتة التي لا تتغير مع زيادة مستوى الإنتاج كالرواتب والأجور، والتكاليف المتغيرة التي تزداد مع مستوى الإنتاج، وإجمالي التكاليف يمثل التكلفة الثابتة والمتغيّرة معاً، ويجب على الإدارة تحصيل السعر الذي يغطي على الأقل أجمالي التكاليف المحققة لمستوى المبيعات ويجب عليها أن تنظر بدقة إلى التكاليف التشغيلية، لأنه إذا كانت تكاليف المنشأة أكبر من تكاليف المنافسين ستحمّل هذه الزيادة على السعر، وبالتالي البيع بسعر عالٍ مقارنة مع المنافسين.

التكلفة أساس
إلا أن التكلفة تعتبر أساس يمكن الاعتماد عليه في تحديد الأسعار بحيث يكون هذا السعر كافٍ لتغطية هذه التكاليف، إضافة إلى هامش ربح معقول مقابل الجهد المبذول، وهذا يعني ضمان تسويق المُنْتَج ورواجه على المدى الطويل.
المطلوب الآن وفي المستقبل القريب تلمس تراجع حقيقي في الأسعار يحرك رأس المال التشغيلي ويرفع من وتيرة الإنتاج، وهذا باعتقادنا خطوة جداً مهمة لإعادة العجلة الاقتصادية للدوران والإقلاع، وجانب في غاية الأهمية لإعادة البناء والإعمار.

دمشق – سامر حلاس