ثقافة

هم الأمل وبهم ستحيا سورية

توجه إليّ سائق التكسي بالحديث، وكنّا للتو قد تجاوزنا حاجزاً للجيش: “الله يحمي الشباب الواقفة تحت الشمس كل النهار”، وأكمل: “الله يجعل الخلاص على خير ونرجع متل زمان”.. قلت: “العالم يعمل جهده ويضع كل قدراته للسير بالشعوب إلى الأمام، يعمل كي يتقدم وها نحن ندعو الله أن يعيدنا إلى الخلف إلى تاريخ مضى!”.. ابتسم بحزن، وقال: “الله يسامح من كان سبباً لهذا الخراب، الله يسامح الذي جعلني أغيّر عاداتي ومخططاتي، وأسلوب حياة اعتدته منذ زمن بعيد، في كل الأحوال خلصنا، وها نحن على أبواب النهايات، ورح نرجع أحسن بإرادة أهلنا الطيبين، ومباركة من الله”.
في العمل أتت قهوتي الصباحية مع عمار، الفتى الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر، سألت، وقد ظننته ابناً لصاحب البوفيه: “أتساعد والدك اليوم؟” قال: “لا.. لست ابنه، أنا أعمل لديه”.. قلت: “ألست في المدرسة؟ عليك أن تكون في صفك في هذا الوقت”.. قال: “نعم.. أنا في المدرسة، لكنا تهجّرنا من منزلنا، وتوقف عمل أبي، وهو يعمل الآن ما يتيسر له هنا وهناك، فقررت مساعدته في النهار وبعد الظهر أستطيع الدراسة في المنزل، قال لي أبي سنرجع إلى بيتنا بعد الانتخابات وأعود إلى مدرستي”.. وكما الكبار أكمل عمار: “سنة من عمري ليست مشكلة المهم تخلص الحرب وتنتصر سورية”.. والتفت وهو يبتعد مع ابتسامة الواثق يرفع قبعته التي تحمل علم سورية وقال: “ورح ننتصر.. رح تنتصر سورية”..
قريباً من المنزل، على زاوية المبنى، يسألني أبو محمد: “ما الذي تريده المدام للطبخ اليوم، كل شي موجود؟” أنتقي ما أحتاجه سريعاً، ويودعني: “تاكليهن بالهنا يا أختي”.. سألته وعمره من عمر الزمن: “يا أبو محمد ألم يحن الوقت كي ترتاح، أن تكون في بيتك الآن بينما يخدمك الأولاد؟”.. قال: “الحمد لله مازلت أستطيع العمل، ولن أنتظر من يحسن إليّ بلقمة عيشي، أنا مسؤول عن أولادي الصغار، والكبير الله يحميه، الله يعمي عنه”.. وأردف بكبرياء: “ابني بالجيش، وبإذن الله لن تطول الحرب، وسوف يعود ويكفيني تعب الأيام، ابني أخبرني أن الحرب رح تخلص، ورح نرجع أحسن من قبل.. أنا إلى دكانتي الصغيرة وهو إلى دراسته”.. وأكمل: “البلد محتاجتنا، أكلنا من خيرها كتير، واليوم صار دورنا نعطيها”..
سألت المذيعة المتصل بها:”كيف ستنتخب وأنت خارج سورية؟” أجابها: “عندما رأيت بالصدفة حركة غريبة في السفارة ظننت أنهم يحضرون للانتخابات، لكن أملي خاب عندما علمت أنها مجرد أعمال صيانة، ولن يسمحوا بإجراء الانتخابات هنا”.. وقبل أن تسأله المذيعة أكمل: “المشاركة بالانتخابات حق وواجب، وسورية بلدنا تستحق أن نبدل وجهة سفرنا إلى أقرب بلد يمكننا الانتخاب فيه، هذا أقل واجب”..
أما غادة فهي بنت سوريّة أصابها ما أصاب الجميع من حقد الجهلة، تركت منزلها في الخالدية بحمص، كما الجميع وعادت تتفقد ما ظنته بقايا قالت:
“لم يكن ممكنا الوصول إﻻ بمساعدة حيدر، المهندس الشاب ابن الجيش، الذي رافقني والصديقات لرؤية بيتي الذي من المفترض أنه مهدّم كما الكثير من المنازل، لكن ولهول المفاجأة بكيت فرحاً لرؤيته صامداً وسط الخراب، ورؤية أشيائي البسيطة التي لم تعنِ شيئاً لمن حاول اغتصاب بيتي، ذكرياتي وذكريات من مروا من هنا، لكنها بالنسبة لي ثروتي، غطاء الصوف حياكة أمي، صورة أبي، فناجين القهوة من أحمد الغائب الحاضر أبدا وكتبي الغالية”.. وأكملت: “حيدر، ذاك الشاب السوري اﻷصيل، كان معي بكل إحساسه الراقي، مع العلم أنني أراه ﻷول مرة قال لي: أقدّر حزنك ﻷنني شهدت آﻻم الناس وخيباتهم لفقدان نفائسهم وخاصة الكتب”.. وحيدر كان أخبرها أنه بقي في الحميدية سبعة أشهر، وفي أثناء تنقل مجموعته وتغيير مواقعهم كعسكريين صادف مكتبة ضخمة وثمينة بمحتوياتها آلى على نفسه أن ينقذها من ويلات الحرب حفاظاً على هذا الكنز من الضياع، فاحتفظ باسم صاحبها للبحث عنه ﻻحقاً إذا خرج حيّاً، حيدر أعطاها اسم الرجل الذي بحثت عنه، وقابلته رجلاً هرماً في الثمانين، كانت نكبة عمره فقدان ثروته المعرفية التي سوف يستعيدها بفضل سوري أصيل.. وتابعت غادة بتأثر بالغ: “حيدر أنت من السوريين الذين سيعيدون بناء الوطن بأمانة ومحبة، شكراً لابن الجيش لحيدر السوري الراقي”، وأردفت: “في أمل أكيد، وطالما في سورية هؤلاء السوريون بهم أكيد ستحيا سورية”.
نعم.. بهؤلاء تسير سورية إلى الأمام بغادة، وحيدر، بعمار، وسائق التكسي، بأبي محمد وابنه، بالمغتربين في الخارج، بالأم التي قدمت أبناءها للشهادة ودعت أن لا ينعم خاطفو ابنها الأخير بإهانته، راجية الله أن يكرمه بالشهادة قبل ذلك، بإخوة لنا صمدوا تحت حصار الجوع والماء، بضابط من الجولان يستشهد دفاعاً عن دير الزور، وجندي من مرمريتا يهب دفاعاً عن حماة، بضابط برتبة لواء يسابق مجنديه لنيل الشهادة، بأولئك الذين يصونون الحياة بكل رقي وحب للحياة، برغم الأيادي السود التي تحاول إيقاف المسير، وبرغم الأيادي التي تدمّر البيوت وتخرّب العقول، تقتل الإنسان، وتحاول إعادتنا إلى عصور الجهل والرمال والغبار، سورية ذاهبة إلى الأمام، إلى مستقبلها الواعد كما اعتادت عبر التاريخ، بهم سوف تحيا، وسيبقى رأس سورية دوماً مرفوع إلى الأعلى، حتى كأني به يطال الغيم في السماء.
بشرى الحكيم