ثقافة

رجــــالٌ فــــوق الشـــمس

الشمس التي تنحدر فوق جباههم الندية، تترك بعبورها الشاق، آثار سمرة مالحة، تغيّر ملامحهم قليلاً، حتى أن من يعرف أحداً منهم، قد يمر من أمامه دون أن تتعرف عيناه بذاكرتهما اللحظية على ذاك الوجه الذي غيرت شمس آب زاوية ميلانها درجة واحدة لتراه. أما الفيء المتكئ على جدران متوهجة، والذي يقصدونه أحياناً وهم يتبادلون بين بعضهم البعض أوقات صلابتهم النادرة، يكاد يخجل من خيالاتهم الطازجة، وهم يتناولون وجبتهم السريعة على عجل كأن الريح تحتهم.
أكثر من ثلاث سنوات ونصف مر خلالها الغدر المتخفي، تارة بعربة طفل وتارة بسيارة أو دراجة هوائية أمام نظراتهم الطيبة، ليدّون بأنهم كانوا هنا وما زالوا، يرفعون السماء بأكتاف واثقة، وقلوب مقدودة من ينابيع وجبال وسهول، لا وقت لنبضاتها الثابتة للشعور بالارتباك، أما الخوف، فكلمة لا تعرفها قواميسهم الوجدانية، ولا تشعر بهبوبه الطارئ، أصابعهم المطمئنة لزناد البندقية، كما يطمئن طفل يغفو بحضن أبيه لسريره الأبوي.
إليهم مضيت بأثقال قلبي، وخفة آلة التسجيل التي لا أعرف كيف ستقدر على حمل أصواتهم المحملة بأطنان من بخور الألفة، في رأسي تعصف أسئلة كثيرة، لكنها ارتبكت فعلاً، أمام ابتسامتهم العذبة وهدوئهم المثير للدهشة، وكأنهم يتكئون على أرائك في بيوتهم البعيدة، يشاهدون مسلسلاً طريفاً، لا يقفون على مفارق ودروب يتلطى الموت بخطواتها وتحت إشارات مرورها الحمراء دائماً.
كواكب نادرة لم ننتبه لبريقها قبل بداية الأحداث العاصفة التي مرت على سورية، حبيبتهم الخالدة، الفتية دوماً في خيالهم المرح، حتى وهم يئنون من وجع رصاصة استقرت بين أغلفة قلوبهم الخصبة، رصاصة لا تريد الخروج من بين تلك الأضلاع الرؤومة، لأنها تأنسنت بمستقرها ومرساها الأخير.
هؤلاء الرجال لا تعني لهم أمريكا وفرنسا وبريطانية بآلات حروبهم الثقيلة وترسانة صواريخهم العابرة للقارات، بالإضافة لشلة الغدر العروبي المتوسدة خوازيق الجامعة العربية، إلا بمقدار ما تشغل بالهم ذرات التراب العالقة بأحذيتهم، هذا ليس كلامي، إنه إحساسهم الصادق، ويقينهم الراسخ، فالحديث الذي دار بيني وبينهم كان عما يشغل الرأي العالمي ويقض مضجعه ليل نهار، نشرات أخبار، تحليلات، مفكرون إستراتيجيون، رؤساء دول لا شغل لديهم إلا كيفية النيل من سوريتهم، ما يحز بدواخلهم و يؤلمهم هو خيانة بعض بني جلدتهم، أخبرني “ف- ع”: من أمريكا هذه يا رجل، الحق أقول لك، إننا ننتظرهم على أحر من الجمر، على الأقل بهذه الحالة أنت تعرف عدوك وتعرف نواياه، كما ترى بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الحرب القذرة التي نخوضها، صدقاً تمر عليّ لحظات لا أصدق فيها أن من كان يوماً رفيقي بالسلاح، يراني عدوه، يتعامل مع هذا البلد الأمين بانعدام ضمير وقلة شرف لم نعهدها أبداً، لا أستطيع أن أتخيل أن من تقاسمت معهم رغيف الخبز والبطاطا المسلوقة، الأحاديث الحميمة والضحكات التي كانت تنتابنا ونحن في مقراتنا العسكرية، يصوب سلاحاً إسرائيلياً إلى صدري أو صدر السوريين الأبرياء، ويهلل لموتنا، فلتأتي أمريكا وعصاباتها ولن يكون مصيرها ومصيرهم إلا تحت هذه. نظر إلى قدمه وأردف: حتى هذا الحذاء عالٍ على رقابهم.
“س- ب”، بزته المرقطة ملتصقة بجسده النحيل لغزارة عرقه الذي يبللها، يدخن سيجارته الحمراء الطويلة، وهو غير مكترث أبداً بما يجري من حديث بيني وبين زميله، طلبت إليه أن أتحادث معه قليلاً، قال لي بلهجته الديرية الخشنة بعد أن سألته إن كان قد تعب أو تسرب الخوف إلى داخله بعد التهديدات التي تكال صباح مساء لسورية؟ أجابني: أنت قل لي، هل أنت خائف من هذا البوم اوباما وخنازيره؟ انقلب الحوار عليّ إذ إنني لم أكن أتوقع أن يسألني هو، في الوقت الذي أقوم أنا به بهذا الدور، أجبته: بوجود رجال مثلكم، الخوف عار وخيانة، انفرجت شفتاه عن ابتسامة هادئة، ثم وضع يده على كتفي، شعرت بحرارة يده وطمأنينتها وهو يخبرني: (وحياتك ولا تقول رخصت، حقهم فرنكين بسوق الغلا) مضى وهو يترنم بأغنية تناهى إليّ شيء منها (عرج على الديرة إن نخطر ببالك، طفي جمر غيرة عا شوفة خيالك) سألته لمن هذه الأغنية وأنا أقصد من صاحبها، قال لي: للغالية. وترك لي أن أخمن من هي هذه الغالية.
ما قاله هذا الجندي السوري النبيل ورفيقه، ليس كلاماً عاطفياً أو وليد لحظة انفعال وطني، لأنهم ببساطة شديدة، لم يعودوا يقيمون للموت وزناً، وبالنسبة لهم ولرفاقهم، الحرب ليست إلا شيئاً خارج الزمن، الحقيقي والأكيد لهم، هو بيوتهم وأحباؤهم الذين ينتظرونهم، أو القبر الذي سيحملهم إلى الخُلد والخلود.
تمام علي بركات