ثقافة

دمــــــــــــاء علـــــى أوراق النــــرجــــــــــس

ما إن يفكر الربيع في الاقتراب على حذر من أواخر الشتاء حتى تهتز التربة الصقيعية، وتتباعد ذراتها مفسحة المجال لرأس صغير أخضر يتطاول بصبا رغم برودة الأجواء ثم يتفرق إلى شرائط خضراء تحوي في مركزها برعماًً مصفراً ملتفاً على نفسه محاطاً بخضرة شفيفة لا يفتأ أن ينفتح عن زهرة النرجس البري صنع الله في مخلوقاته.
النرجس زهر بري مسكنه جبلي مأواه حفنة من تراب لصيق بالصخور ما إن تبزغ  زهوره حتى يتسارع السكان المحليون إلى اقتطافه وضمه إلى بعضه بواسطة أوراقه الخضراء الشريطية وتحويله إلى باقات صغيرة من الجمال والرائحة الزكية، وقد يصنعون منه عقوداً احتفالية بوسيلة بسيطة الإبرة والخيط.
منذ عقود أدمنت الولع بهذه الزهرة العجائبية أحببت رقة شكلها وعطرها الساحر، وباكورة تفتحها في البرد والمطر وأحياناً في الثلج، جمالها باهر ببساطته وموسمها قصير ينهيه الدفء حتى باكورة الربيع التالي.
لم أكن وحدي من يهتم بالنرجس البري، غيري كثيرون كنت أسير في الشوارع بحثاً عن امرأة ريفية تحمل طبقاً كبيراً من القش صفت عليه باقات النرجس البري بشكل منتظم، أحييها، تبتسم تقدم بضاعتها بذوق ألتقطها وأدفع الثمن، أودعها تبتسم ثانية وتلتفت بحثاً عن زبون غيري.
ويمر الربيع تلو الربيع وتتوالى المواسم ويبقى شراء النرجس البري عادة محببة لي ولغيري في مواسمه المعروفة.
وذات يوم عادي كغيره بدأت الأزمة في سورية وكانت مصادفة غريبة بلاشك أن يتزامن توقيتها مع بداية موسم النرجس البري ومناسبة الاحتفال بعيد الأم عيد القداسة والحياة.
أترك إلى حين يوم عيد الأم لألاقيه لاحقاً وسأكتب مطولاً عن النرجس هذا الزهر البري المكابر الذي تربى في أحضان الأمهات وتعملق في سنوات ثلاث محققاً طفرة في عالم الزهور والأبناء والجيوش طفرة رعتها الأرض الطيبة التي باركها الله.
أنا ما رأيت قط زهراً أكثر صباً وألقاً، ولا أكثر قوة ورسوخاً ولا أكثر تجذراً وصبراً وتحملاً لقسوة الظروفة والطبيعة، ولا أكثر جمالاً وبشاشة ودماثة من الزهور التي زانت أرضنا منذ مواسم ثلاثة، منذ أن بزغت ما انقطع عطاؤها ولا بذلها ولا اعتراها الذبول ،ما رأيت قط نرجساً يتألق لأكثر من ألف يوم بنفس الزهو والكبرياء ياللنرجس المقاتل الذي له لون واحد ورائحة زكية واحدة، هم أبناؤنا الذين كلما نادتهم الأم يتراكضون لنجدتها فوق حضنها الذي ملأه الربيع اخضراراً أراهم زهوراً فوق السهول العشبية، الصخرية، المتربة، الثلجية.. أبناء يجولون فوق حضن أمهم الواسع أعتز لمرآهم ويفجعني النجيع الذي يتناثر منهم فوق زهور النرجس ويتقاطر على العشب والتراب قرباناً بشرياً وفداء لربيع قادم دائم مزدهر.
ذات يوم غير عادي في حياة البعض من الكل وببساطة لا تخلو من صرامة القرارات الحتمية غادرت كثرة من الأبناء أمهم التي أحبتهم وأحبوها مغادرة من لن يعود، لم يتسنَ لهم أن يودعوا أحداً اعتادوا أن يعنوا بشأنه ولا شيئاً ألفوا أن يكترثوا به حتى ولو كان الوداع مجرد نظرة عرضية لا تحمل معنى الاستدراك.
كلهم غادروا بكل شجاعة أقل ما يقال فيها إنها البطولة بعينها وأبعادها بعدهم لم يتغير دوران الكرة الأرضية، ولكن الكثير مما كان بدأ يتخذ طريقه نحو التغيير فللأم وحدها قدرة التغيير، ولكن ما أفدح الثمن!!.
وبدأت صورهم الفتية المؤطرة داخل القلوب تتصدر قوائم الشهداء..
اللهم فاشهد أنهم العطاء اللا محدود..
اللهم فاشهد أنهم الأبناء البررة..
اللهم فاشهد أنهم الزهر الذي تفتح في المواسم كلها وبلغ عطره السموات السبع، ما كان ثمة شجر أكثر رسوخاً من إيمانهم وما من كرم وصل إلى قيمة بذلهم وما من قلم استطاع أن يرقى بالمفردات إلى مستوى عظمتهم أو أن يعبر عن خصائصهم الإنسانية التي نقلتهم بقدراتهم غير العادية من مرتبة الإنسان العادي إلى مقام الإنسان العملاق، وما من كراريس مهما تعددت صفحاتها تتسع لقصصهم وبطولاتهم  واستشهادهم، وما من أنهار أكثر تدفقاً وحرارة وغزارة من دموع أمهاتهم إلا أنهار دمائهم، ولا يعثر الفكر مهما جهد على تعابير تداني مستوى عطائهم مهما تسامت.
لهذا القصور البشري العادي لن أتمكن من رثائهم لأن مثلهم كبار على أي رثاء هم ندرة بين البشر.
هم انتقلوا من حقول النرجس واستقروا في قلوب كثيرة وهنالك سيبقون إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
امتلأ قلبي فخراً بهم وإكباراً لهم واعتزازاً بتدفقهم كالسيل المبارك الذي شق طريقه ما بين صخور وجبال وأنهار ومروج وأشجار الأم الكبيرة والعظيمة بامتياز سورية الواحدة.
انتقالهم النبيل كان أيضاً طفرة في عالم الطبيعة فأرض النرجس المباركة لم تكف من يومها عن الازهار في المواسم والفصول كلها، والزهور المقطوفة لم يعد يعتريها الذبول ولا الفناء ولا التلاشي لأنها أتقنت كيفية الحفر عميقاً في الأرض لتستقر وتعطي نسغ الحياة لغيرها هبة دون مقابل.. هبة لا تقدر بثمن.
أدعوكم بشهدائنا وأنهم الأكثر حياة وحيوية منا، أنتم سورنا وحمانا أنتم عزنا وكرامتنا أنتم العطاء الذي لا يحد ولا يدانيه عطاء مهما عظم، دمكم شقائق النعمان جثامينكم قرابين الفداء، وإن كان في الوطن كنوز فأنتم الأثمن من بينها.
ليت عندي كلمات ذهبية لأصوغها أكاليل على رؤوسكم يامن كللتم رأس الوطن بتاج العزة وقدمتم حياتكم هبة كريمة في ريعان الصباء وعنفوان الرجولة ومضيتم دون منٍّ، فلكم علينا كل الدالة أيها الأبناء البررة بخير أم.. الأم الكبيرة سورية الواحدة.
وإن تذكرنا أن للأم الصغيرة عيداً سنوياً أوائل كل ربيع فذلك لأن كل مقاتل في أي موقع، اجترح بهذه المناسب المحببة لمسة إنسانية هي مزيج فريد من الخاص والعام، ليحيي بها أمه في مكانها الذي تنتظره فيه، أنى كان ذلك المكان، هذه اللمسات قد تكون اتصالاً هاتفياً يقوم به شاب بطل، ومن منهم ليس ببطل، ليخبر أمه أنه صامد وأنه يحبها وأنه مشتاق لقبلة من يدها طلباً للرضا وكل أم  بينهن تغرق أبناءها بالرضا في العيد وسواه أو قد تكون أهزوجة يصدح بها صوت ابن ما يجدد بها الميثاق الذي وقعه وإأخوته في السلاح مع الأم الكبيرة ويخبرها أنهم ما وقفوا وصمدوا حيث هم إلا لتبقى عزيزة حيث هي، أو قد تكون إطلالة على شاشة الوطن لشاب صغير السن كبير جداً يبعث بأشواقه إلى أمه بعد سنتين من الحلم برؤيتها مؤكداً لها محبته وحاجته لحنانها واستعداده لتقديم دمه فداء، ولكن ليس لها،إنما لأمهم أم الجميع وينحني على الأرض ويأخذ حفنة من التراب يمرغ بها وجهه النبيل ويستقيم فيتدحرج جدولان صغيران شفافان من عينيه ويخطان مسارين على الوجه الملائكي المترب: ولدي حبا الله وجهك وحيا التراب الذي مرغته به وحيا الله أمك الصغرى والكبرى، وبارك هديتك الغالية لهما.. الحب والدم.
لا تتسع كلمات ولا أوراق، ولا يتسع حتى الزمن لتسجيل حفاوتكم بأمكم واستعدادكم لفدائها، ولا أعرف من هو الأكثر رضا الأم بأبنائها أم الأبناء بأمهم.
بارك الله الأم والأبناء فأنتم الرقم الصعب الذي لا تدرك أبعاده، والمعادلة المستحيلة التي استعصى حلها على الغزاة، إيمانكم بالأرض والتراب يعدل إيمانكم بالله وبالأم وبالوطن وبكل ما هو قيم وأصيل.
علمتمونا كيف يكون العطاء والكرم خارج منظومة الزمان والمكان تعلمنا منكم أنتم العائبون الحاضرون دائماً وأترعتم أقلامنا بمدادكم الحار فحاولنا أن نجاريكم بنقل أخباركم، ولكن لم نستطع أن نرقى لمرتبتكم لأنكم غدوتم التاريخ بأبهى صوره.
يمتزج إكباركم في قلبي بحزن هادئ أسوقه إلى مسارب التسليم وتهدهد روحي مشاهد بطولاتكم ومشاعر افتقادكم، وأعزي نفسي بأن الله أعطاكم ما طلبتم كما أردتم تماماً الشهادة.. البداية والنهاية والمغزى الكبير الذي لا يدركه إلا من كان معكم ومثلكم، ومثلكم ندرة بين البشر.
رغم فخري بكم، وإكباري لكم ما أزال أشعر بحزن لا أعرف حتى متى فالأشخاص ليسوا هم من يرتهنون الحزن، إنما الحزن هو من يرتهن الجميع  دون إذنهم يأسرهم.. يدخلهم ملكوته.. يحكم عليهم ولايطلق سراحهم لأن الحزن ظالم وباذخ ..
وتنبت في آفاق العقل إشارة استفهام كبيرة لماذا؟
لماذا كل هذا الخراب؟
لماذا كل هذه الحرائق؟
لماذا كل هذا الدم المراق وكل هذا النرجس المنتزع عن أرضه؟
لماذا هذا التفريط بالأعمار الشابة؟
لماذا نلحق الإعاقات الجسدية بشباب يغار الورد من جماله؟
لماذا لاتتعرف الرصاصة إلا على الهدف المغلوط؟
لماذا تطحن نفوس الأطفال الرهيفة؟
لماذا الجوع؟
لماذا التشرد ؟
لماذا اليتم والثكل؟
لماذا الترمل؟
لماذا هذا الظلم كله وتحت أي مسمى؟
ولماذا الأكثر بكثير مما ذكرت أو مما لم أذكر؟
وأعود لأتأمل المشهد العام بعقلي وقلبي بعد أن استعرضته بعيني فينقلب حزني غضباً لايجد طريقه إلى مساري التسليم.
فالخراب حدث همجي استثنائي سلبي خارج نطاق القضاء والقدر، الخراب نتاج الشر.. والشر اقتراف والقتل جريمة.. والساعي بها كالقائم بهما سواء بسواء.
فاكبري أيتها الأم الكبيرة على الوجع فقدرك أن تكبري.
عبد القادر أحمد