ثقافة

جدوى الكتابة!

السؤال هو في الماهية تماماً، بقدر ما ينطوي عليها ويشي بها، بقدر ما يصبح سؤالاً مركباً وملتبساً بآن معاً.
ذلك ما هجس به كتّاب ومفكرون وفلاسفة ليس آخرهم سارتر الذي وضع كتاباً ليقارب الجدوى من الكتابة وذهب فيما ذهب إلى سؤال مثلث الأضلاع “لماذا نكتب وبما نكتب وكيف نكتب”؟.
وليس من التبسيط القول أن الكتابة ليست ملء فراغ أو مجرد حاجة ما، غامضة لا يعلمها إلا الراسخون في الإبداع، إنها تجربة هكذا اسمها لتنفتح على الذات وأقانيمها، ولعلها في هذا السياق المغامرة الأولى لاكتشاف الذات واكتشاف العالم وهو اكتشاف مازال يمثل متعة المبدع في تأويله لشكلٍ معرفي يتغذى بالقلق والهواجس ويتوسل الحوار، وهنا فضيلته الكبرى، وفضلاً عن ذلك قد فطر الإنسان على محاولات اكتشاف “قوة” ما لديه وسعى لتفجيرها في أشكال وتعبيرات مختلفة ولعل “الارتطام الأول” في فعل الكتابة هو ما قد يشكل أساس تلك المعرفة، على تباينها وتعدد أشكالها يحفر الوعي البشري علامات وجوده وصيرورة كينونته.
في أزمنة سالفة شُغل الروائي الراحل عبد الرحمن منيف باكتشاف تلك القوة ومحاولته إيجادها فكان أن ذهب إلى الرياضة لكنها لم تقنعه بما يكفي، فقد أحالته معطيات الواقع، لاسيما “حرب 48، ونكسة 67″، إلى أن يكتشف أن القوة هي في إعادة تشكيل العالم ولكن برؤيته. وهكذا راحت مدوناته وسردياته الكبرى تقارب تلك القوة التي هجس بها يوماً، لتبني كل عماراتها الباذخة.
والأدل فيما يسعى إليه المبدعون اليوم هو أن الكتابة قد تخطت مفهوم الحاجة النفسية والعاطفية لكنها لم تتخلَ عنها لأنها أصبحت ضرورة قادتها مصادفات كثيفة، وأصبحت أفعالاً حواريةً سواء استخدمت صفحات التواصل الاجتماعي أم ظلت في زمن الورق الجميل، لن نتكلم هنا عن المعيار الذي يكاد ينمحي في الأعم الأغلب كناظم لتلك الكتابة ووسائطها الجديدة لأنها أصبحت هي بذاتها معياراً حال توسلها جنسها الإبداعي، لطالما كان هاجس المبدع الرئيس هو أن يضيف لما يعرفه ويتوسل أن يضيف لمنجزه، ما شكل ذلك المنجز على المستوى الفني؟ هنا ضروب الحاجة إلى اختمار التجربة التي تقر شرعية الاسم وهويته.
الكتابة هي إذن هوية في اكتشافها المزدوج للذات والعالم، للذات العارفة بكينونتها، وللعالم كيف تتسع صفحاته المختلفة لتحمل خفقات الكلام، وليبث شعريته المفتوحة على ما تلتقطه المخيلة فتتجاوز الواقع وتبني واقعاً جديداً، وهكذا في رحلة الكتابة وإشراقاتها، من لحظة الوعي بالذات إلى لحظة الوعي بالعالم، تختزل ما تراه وليصبح نمط عيش، وتبوح بما تعيشه لأزمنة أخرى.
أحمد علي هلال