اقتصاد

سلطتنا التنفيذية أمام تحدّي إنعاش قطاعنا الصناعي العام تحديد خياراتنا اعتماداً على تجاربه الناجحة.. وماركاتنا التجارية المندثرة بوصلة ازدهارنا

كثير من الأمم يتغنى بأمجاد ماضيه دون ترسيخ لما بتغنى به في حاضره ومستقبله، وكأن ما صنعه الأجداد والآباء يستحيل على الأحفاد والأبناء!. وبمقاربة هذا الكلام مع أمجاد اقتصادنا الوطني نجد كثيراً من منتجات قطاعنا العام يتغنى بها مسؤولونا، ويطرب لها اقتصاديونا ويتحسر عليها مستهلكونا، لأنها كانت فخر الصناعة الوطنية مثل منتجات شركات (بردى – سيرونيكس – بطاريات البرق..الخ).
دعوة
وعلى اعتبار أننا على أبواب مرحلة جديدة ندعو سلطتنا التنفيذية إلى الشدّ من أزرها والاستعداد للعمل وفق رؤى تكتيكية واستراتيجية، وعبر برامج وآليات تتواءم مع طبيعة ما نحن مقبلون عليه، من نهج اقتصادي عنوانه الرئيس (إعادة الإعمار)، علها تستطيع كسر قاعدة التغني بالماضي، والاتكال على أن يكون الأبناء خير خلف لخير سلف.
قد يؤخذ علينا تناولنا مراراً للإعمار دون تبلور لأية بوادر ملموسة له على أرض الواقع، ونوضح أن إصرارنا الدائم على تناول هذا الموضوع ينطلق من أهميته الكبرى وضخامته من ناحية، والتركيز على حيثيات –ربما تكون غائبة أو مؤجّلة إلى حين– من جهة ثانية.
مقارنة
الحيثية التي نريد تناولها في هذه المادة تتمثل بالأسباب المخلّة بمعادلة نجاح قطاعنا العام الإنتاجي وتراجعه إلى الصف الثاني أمام نظيره الخاص، علماً أن ما يمتلكه الأول من مقومات مادية ولوجستية يفوق ما لدى الأخير الذي بدا خلال سنوات الانفتاح الاقتصادي الأخيرة -بنظر كثير من المراقبين- يسحب البساط من تحت مَن بقي على مدى سنوات طويلة سيّد الموقف في اقتصادنا الوطني، عسى أن تؤخذ هذه الأسباب بعين الاعتبار كدرس يستفاد منه في المرحلة المقبلة.
ليس أول أسباب خلل معادلة نجاح الخاص وإخفاق العام، الروتين والبيروقراطية وليس آخرها الفساد الإداري وما نجم عنه من تداعيات جعلته يأخذ دور الأب المغدق على أبنائه دون أن يقدّموا ما يكافئ –كحدّ أدنى- عطاءات الأب الذي أُثقل بعقوق أبنائه الناكرين لمسؤوليتهم تجاه ما اؤتمنوا عليه.
شواهد
بعيداً عن الأزمة، كثيرة هي الشواهد في قطاعنا العام التي تدل على تراجع أدائه وتدني مستوى كفاءته الإنتاجية، ولعلنا نجد في المؤسسة العامة للصناعات النسيجية أنموذجاً يشخّص حالة الترهّل التي يعيشها القطاع العام الإنتاجي نتيجة تناقص عدد الكفاءات والخبرات رغم ما تزخر به من فائض عددي انكفأ معظمه بعيداً عن مواقع الإنتاج الحقيقية لاهثاً وراء الأعمال الإدارية تحت ذرائع وحجج من قبيل عدم مساواة الأجر لما يبذل من الجهد، وأن السن المتقدم نسبياً لبعضهم لم يعُد يساعده على العمل العضلي، وغير ذلك من الأسباب التي يحيكها عمال يفضّلون قضاء ساعات عملهم بأدنى جهد ممكن، وبالتالي اضطرار إدارات مؤسساتهم وشركاتهم الإنتاجية إلى ضخ دماء جديدة ليزداد فائضهم العددي، وتحميل الشركات أعباء مالية خارج حسابات المدخلات والمخرجات الإنتاجية.
لاشك أن كل ما سبق وضع الجهات المعنية أمام سيناريوهات محتملة بين التقاعد المبكر للشريحة العاطلة، وإحالة الآلات إلى خارج الخدمة، أو بيع أصول الشركات العامة لبعض الجهات العامة لإعادة استثمارها في قطاعات أخرى…الخ.
لم ينفِ مصدر مسؤول في المؤسسة العامة للصناعات النسيجية لـ”البعث” أن المؤسسة تعاني من فائض عددي -دون تحديد نسبته– مبيّناً أن إحصائيات عام 2010 تشير إلى أن كمية الإنتاج لم تتأثر إثر تناقص الملاك العددي الذي بلغ 26 ألف عامل لدى المؤسسة حتى تاريخ 31/12/2010، بعد أن كان 30 ألف عامل، بل على العكس أصبحت أفضل مما كانت عليه سابقاً، في إشارة منه إلى البطالة المقنّعة، التي تناقصت من خطوط الإنتاج، لتتخم بها أروقة المكاتب الإدارية.
استمالة الخبرات
وأوضح المصدر أن القطاع الخاص سحب كثيراً من الكفاءات من القطاع العام لدرجة أن الأخير أصبح يبحث عن مختصّين مؤهّلين بشكل كبير وذوي خبرة طويلة لتوزيعهم على كل مفاصل العمل المناسبة، فالخبرات الحالية محصورة في أماكن محددة فقط، مشيراً إلى نقطة جوهرية هي أن التأهيل مرتبط بالدرجة الأولى برغبة العامل نفسه، إضافة إلى أن هذا الأمر يحتاج إلى فترة طويلة من الممارسة العملية، ولا يمكن الاعتماد فقط على الدورات النظرية التي لا ترقى إلى مستوى يواكب الكفاءات في الشركات العالمية.
حوافز
الخبير الاقتصادي الدكتور زكوان قريط دعا إلى ضرورة ربط الإنتاجية بالأجر وزيادة الحوافز والمكافآت بهدف تقليص نسبة العاملين الراغبين بالانتقال إلى العمل الإداري، وأن يعمل القائمون على إدارة القطاع العام الإنتاجي بعقلية القطاع الخاص والاهتمام بالأبحاث والأفكار لتطوير الإنتاج، وعدم اتباع سياسة الأبواب المغلقة أمام الاقتراحات والأفكار التطويرية، والتركيز على الجانب التسويقي لمنتجاتهم عبر دراسة السوق بكل تفاصيله والتعرف على أذواق المستهلكين والزبائن المحتملين، إلى جانب القيام بحملات دعاية وإعلان بشكل مستمر، مشيراً إلى غياب هذا الجانب المهم من قاموس قطاعنا الإنتاجي، وأضاف قريط: لا معنى لتشغيل الآلات بكامل طاقتها الإنتاجية دون تصريف إنتاجها، وتساءل: هل الخسارة الناجمة عن عدم تشغيل الآلات بكامل طاقتها الإنتاجية توازي أو تساوي الخسارة الناجمة عن عدم تصريف المنتجات التي تكدّس في المخازن؟.
قريط اعتبر أن تحديد الإجابة يتطلب دراسة السوق بعمق لمعرفة مدى استيعابه لهذه المنتجات، ومدى ملائمتها لأذواق المستهلكين الذين فقدوا الثقة بمعظم ما ينتجه القطاع العام، علماً أن المواد الداخلة في تصنيع منتجات القطاع العام ذات جودة أعلى من نظيرتها في القطاع الخاص.
ولا يجد قريط أن الحل في خصخصة الشركات الإنتاجية العامة، وإنما في القيام بخطوات إصلاحية جذرية من خلال محاسبة إدارات كل الشركات عن أداء شركاتهم وما حققته من أرباح حقيقية، وعدم الاكتفاء بتنفيذ الخطة الإنتاجية فقط بل التركيز على العوائد المحققة منها، إلى جانب معاقبة المقصّرين، ومكافأة المجدّين وترقيتهم.
خلاصة
ما تقدّم قاد الخبير إلى تأكيد أن خلاص شركاتنا الإنتاجية مما ابتليت به من أمراض نخرت مفاصلها، لا يحتاج إلى قرارات إسعافية وترقيعية بل جذرية واستراتيجية، عبر إعادة هيكلتها ورفدها بكفاءات تضاهي تلك الموجودة في القطاع الخاص، وإن كان ذلك على حساب التخلّي عن دورها الاجتماعي والأبوي، لأن الذي لا يريد أن يعطي لا يستحق أن يأخذ، وفي النهاية لكل مجتهد نصيب.

دمشق – حسن النابلسي
hasanla@yahoo.com