ثقافة

مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة الأول في يومه الثالث أفلام احترافية وأخرى مغرقة في الرمزية والشخصانية خطوة مهمة لتأسيس قاعدة شبابية سينمائية

رغم آلامها وأوجاعها، لا تزال سورية مصرة على عزف لحن الحياة والصمود، فليست ساحات القتال والمعارك وحدها من تشهد تطوراً وتقدماً، وإنما الساحات الثقافية أيضاً تشهد في هذه الأيام مهرجاناً جديداً لم يكن موجوداً من قبل، تحت عنوان “مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة الأول”، ليتربع هذا العام ولأول مرة على عرش دار الأسد للثقافة والفنون، ويشهد أول انطلاقة له برعاية من وزيرة الثقافة د. لبانة مشوح، والمدير العام للمؤسسة العامة للسينما ومدير المهرجان محمد الأحمد.
في اليوم الثالث من المهرجان، حظيت الحفلة الأولى بحضور لفيف من الجمهور،  فكان لفيلم “جوليا” النصيب الأكبر من الإعجاب، وللفيلم الصامت “صحوة” وقفة مع الذات في مساعدة الفقراء والمحتاجين والأطفال، وجدلية فيلم “سأكون يوماً” بين الوقت والحياة، وعن وحدة “سلم دو الكبير”، وعن الفترة الطويلة في انتظار الغائب من خلال “شايف البحر شو كبير”، وعن الحب ومداه في “وبعدا”، وفي الختام عن أسرار وغموض “حياة بحجم خبر عاجل”.
وعلى هامش المهرجان كان للبعث وقفة مع بعض المخرجين للأفلام المشاركة في المهرجان، فتحدثنا مؤلفة ومخرجة فيلم “سلم دو الكبير” يارا شما فتقول: يحكي الفيلم عن المسيرة بين الحياة والموت (الجنازة) ،والفكرة فيه تتجلى أننا وحيدون في أحزاننا مهما كثر الناس من حولنا، والفيلم يخص الأم التي فقدت ابنها، ففي بداية المسيرة نحو القبر كانت برفقة أشخاص، وانضم إليها مجموعة من الأطفال كانوا يلعبون بالكرة، ولكن في نهاية المطاف، وقبل الوصول إلى القبر تجد نفسها وحيدة في حزنها، وحيدة في طريقها، حتى أنها وحيدة في جر تابوت ابنها إلى القبر. لقد حاولت المخرجة شما أن توصل قساوة الحياة ومعنى الوحدة والعزلة والتفرد في مواجهة مصير محتوم. فتضيف صاحبة “سلم دو الكبير” واصفة المهرجان أنه بمثابة خطوة هامة نحو الأمام، بالنسبة لكل شخص لديه حب للسينما، ليضع الهاوي قدمه نحو مشاريع مستقبلية قيّمة ليصل بها إلى العالمية، خاصة أن مؤسسة السينما كانت داعمة لنا، فهي لم تتدخل أبداً في اختيار الممثلين أثناء التصوير، بل بالعكس تماماً كان الخيار خيارنا في كل شيء.

المنحة لا تكفي
ولم يقتصر مهرجان سينما الشباب في المنح على الهواة فقط، وإنما أعطيت الفرصة لمخرج ليس بجديد في عالم الفن السابع لعرض فيلمين له في هذه التظاهرة وهما “جوليا” و”ليش”، وفي حديث خاص مع المخرج الشاب سيمون سمير صفيه يقول معرفاً عن بطاقته المهنية: لغاية هذه اللحظة قمت بتأليف وإخراج عدة أفلام قصيرة، هي: “يامو” لم يكتمل بسبب الأحداث، و”النفق” و”جوليا” و”ليش”، والأخيران من إنتاج 2012، و2013. وقد عملت كمساعد مخرج لأفلام روائية طويلة مع المخرجين جود سعيد والمهند كلثوم، ومعظم الشباب الذين عملوا في الفترة الماضية، وأخرجت ثلاثة أفلام قبل المنحة الإنتاجية، وقريباً ستكون لي مشاريع مستقبلية جديدة مع أشخاص كبار في المهنة.
وعند سؤاله عن تغيير هذه التظاهرة للمشهد السينمائي السوري وعن بناء سينما سورية مختلفة يقول صفيه: هذه المنحة يمكن أن تبين المواهب الجديدة الموجودة، ولكنها لا تستطيع أن تطور أو تغير مشهداً كاملاً، فالمسألة تحتاج إلى مراحل كثيرة منها العرض، ومرحلة ما بعد العرض، والأهم من ذلك مرحلة التسويق، رغم كل جهود مؤسسة السينما المبذولة. وبخصوص القطاع الخاص ودعمه للشباب، يتوقع الشاب الموهوب أن يقوم المهرجان بتشجيع هذا القطاع في دعم سينما الشباب ومنحهم فرصاً لإثبات وجودهم وقدراتهم.

الرسالة وصلت
في البداية يأخذك “حياة بحجم خبر عاجل” عنوان الفيلم الموضوع ضمن شريط إخباري عاجل إلى أفق بعيد، خاصة أن اللقطة الأولى تكون بين الغيوم لتفاجأ بعد التحليق إلى الأعلى والبعيد أن المخرج تخلى عن أهم شرط من شروط السينما وهي رؤية أشخاص أو رؤية أوجه، مستبدلاً إياها بأرجل خلال فترة الفيلم كله، فيقول مؤلف ومخرج الفيلم محمود إدريس: من وجهة نظري ليس بالضرورة أن تكون الرؤية كاملة، فالرسالة التي أردت أن تصل من خلال الفيلم أن هذه الرؤية يمكن أن تكون مجتزأة، وجزء كبير من الحقيقة لا يكون واضحاً. وفي الحقيقة، أنا راهنت على هذه الفكرة، وعلى مدى تلقي الجمهور لها، وبرأيي أنها أحد شروط العرض السينمائي.
ويتابع إدريس: أعتقد أنه وصل لكل من شاهد الفيلم أن هناك شخصاً معذباً ومرهقاً والجميع يلاحقونه، ويصل به المطاف بأخذ قرار الانتقال إلى مكان مريح، وهذا الشيء وصلني من خلال همسات الجمهور أثناء الحضور بقولهم “تعبت نفسيتو”. في الواقع، الفيلم فيه الكثير من الترميز، وأنا ضد فكرة التغريب، فقد حاولت الموازنة والاعتماد على صروح السينما، فالموضوع لا يجب أن يكون مباشراً، وحاولت جاهداً أن أوصل عدة أفكار خلال دقائق، وأهمها أن الرؤية لا تكون مكتملة دائماً، فالصورة أقل مما نعتقد والوضوح دائماً أقل.
وعن شخصية بطل الفيلم يعبّر المخرج الشاب: “هويو” هو نداء تعنيف وليس اسم الشخصية، كنت بهذا الاسم أرمز إلى أنني لا أريد أن أعطي الفيلم هوية عربية، لأن رسالتي لا تقتصر على منطقة جغرافية محددة، وإنما الموضوع إنساني بحت، وأخص به الجميع في كل أنحاء العالم.

جمان بركات

إشراقات لافتة شهدها مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة الأول في اليوم الثالث لانطلاق فعالياته كمشروع أحلام لا تحتمل التأجيل، حيث إن الأفلام التي حملها برنامج العرض لهذا اليوم من المهرجان آنف الذكر، جاءت مفاجئة حقاً بمستواها الفني المتوازن بشكل عام، على مستوى السيناريو، والإخراج، ونضجها في طرح ما تريد “طبعاً البعض منها”.
الأفلام السبعة التي عرضت أمس: (“سأكون يوماً”، نص وإخراج نادين الهبل، “سلم دو الكبير”، سيناريو وإخراج يارا سهيل شما، “شايف البحر شو كبير”، سيناريو وإخراج علي منصور، “صحوة”، سيناريو وإخراج سارة الزير)، بالإضافة إلى ثلاثة أفلام أخرى سنمر عليها لاحقاً، هي من فئة  الأفلام الفائزة بالمنحة الإنتاجية لعام “2012- 2013″، من جهة رسمية لها ثقلها في صناعة المشهد السينمائي السوري، وأقصد المؤسسة العامة للسينما منذ انطلاقتها قبل خمسين عاماً، حتى اليوم الذي تحتفل فيه بيوبيلها الذهبي في هذا المهرجان الحيوي والنابض، احتفالاً بسورية، وبإرادة السوريين الخلاقة، رغم رقصهم العنيف فوق شفرة مستدقة، مستندة بوهن باهظ إلى جدران الحياة والموت، الأمر الذي ترفع فيه القبعة لهذه المؤسسة، ولوزارة الثقافة السورية، في وقت “كفت” فيه حتى بكرة الأحلام عن الدوران، فما بالنا بتحقيقها.
جوليا
الفيلم جاء احترافياً بكافة عناصر صناعته، بدءاً من السيناريو المحكم،  والإخراج الذكي للمخرج الشاب “سيمون صفية”، مروراً بموسيقا  الموسيقار “سمير كويفاتي” الموظفة بعناية بالغة في “جوليا”، والعديد من أفلام المنحة الإنتاجية الأولى، وليس انتهاء بالتصوير البارع الذي أدار دفته “عمر العيسمي”، والأداء الحرفي عالي المزاج  للفنانة “رنا ريشة”.. “جوليا” مستوحى من واقع الألم السوري الدامي، فالمرأة التي خطفتها عصابات على الأرض السورية تدل لهجتها المبينة على هويتها التي باتت معروفة لكل من يعقل، ستهرع إلى ما تقوم به بشكل مستمر كلما سمعت وقع أقدام تقترب، والوعد الذي وعدها إياه أحد رجال هذه العصابات المسلحة بالحقد أيضاً، نفذه جسدها بحالة “بافلوفية” بحتة، بعد أن ذهب التعذيب، والاغتصاب المستمر بعقلها، وبعافية بدنها.
اعتمد “صفية” على تقنية السرد خلفاً، في زمن سرده لحكايته الذي قارب الخمس عشرة دقيقة، لنشاهد بداية “جوليا” وهي ممدة على سرير وحيد في غرفة باردة، (حدس تنقله صورة كاميرا المراقبة التي وظفها “صفية” بذكاء في فيلمه) قبل أن نعرف أنها، أي جوليا، بهذه الحالة النفسية المؤلمة، بعد أن وجدها رجال الجيش العربي السوري في أحد البيوت التي كان يستولي عليها المسلحون، وهي بحالة هذيانية من الرعب، في إشارة بينة من المخرج، ومؤلف السيناريو، عن رؤيته، ورأيه بما يجري في بلده.
التصوير الذكي لـ “العيسمي” أعطى للفيلم قيمة مضافة، فالكاميرا التي تنقلت بخفة ورشاقة مع الجنود بأسلحتهم، تحولت لتكون عين المشاهد ذاتها.
“جوليا” هو الفيلم الرابع لـ “سيمون صفية”، بعد أن أخبر البعث في تصريح خاص بأن “جوليا”  ليس الفيلم الأول له، فهو كان قد أخرج ثلاثة أعمال سينمائية، كان آخرها “يامو” الذي لم ينته بسبب الظروف الحالية، عدا عن كونه عمل كمساعد مخرج مع العديد من المخرجين السوريين، ومنهم “جود سعيد” مخرج “صديقي الأخير”، وأحد أعضاء لجنة الحكم في المهرجان.
اللافت في معظم أفلام المنحة الإنتاجية أنها من تأليف وإخراج الشخص نفسه، وهذا أمر لا أفضله شخصياً، باعتبار أن السيناريو الجيد هو السبب الرئيسي في صنع فيلم جيد، والعكس صحيح، فما من مخرج قادر على رفع سوية سيناريو رديء مهما كان بارعاً، بينما يستطيع السيناريو المصاغ بعناية أن يرفع من السوية الإخراجية لهاو.
وسبب تفضيلي أو اقتراحي للأساتذة القيمين على المهرجان، متمنياً أن يأخذوه بعين الاعتبار في الدورات القادمة، هو أنهم بتفضيلهم شرط أن يكون السيناريو لكاتب غير المخرج، فإننا سنكسب مع كل فيلم يحقق شروط الفرجة السينمائية المثلى، “سيناريست” واعداً أيضاً.

وبعد..
الفيلم الذي يوجه استغاثة، وعتباً، وسخطاً على الحرب الدائرة في سورية، من خلال قصة فَقْدٍ موجعة، يبتلى بها شاب فقد حبيبته إلى الأبد بسبب الحرب المستعرة أوارها فوق أرضه وعالمه الذي أحب، أيضاً “نلاحظ أن معظم أفلام المنحة الإنتاجية تستند إلى الواقع السوري الحالي في تقديم فرجتها ورؤيتها”، فالشاب الذي قام بأداء دوره هنا، سيواظب في التأخر على موعده مع حبيبته، حتى وهي راقدة في قبرها، المتضايقة جداً من تأخره، لكنها تحبه.
حضور الممثلة القديرة “وفاء موصللي لم يكن ضرورياً درامياً للفيلم برأيي، خصوصاً وأنها أم الشاب، ولم تدرك ما حل بابنها بعد تغير هائل طرأ عليه، بل هي حتى غيورة من ذهابه إلى امرأة ميتة، بمعنى أنها تعرف ولا تعرف.
خلل فني أيضاً يتعلق بطريقة السرد المشهدي، دون العناية بمقدمات ضرورية، ومنها الإرباك الذي سببه تغير الشكل الكامل للممثل ذاته، من زيه وحتى ملامحه، حتى ظننا أنهما شخصيتان مختلفتان بادئ الأمر.

حياة بحجم خبر عاجل
أعتقد جازماً بأن المخرج الشاب “محمود إدريس”، أوقع كل من تابع فيلمه “حياة بحجم خبر عاجل”، من تأليفه وإخراجه، بحيرة كبيرة، وإرباك بالنظر، فـ “إدريس” الذي قال في حديث خاص للبعث، بعد استفسارها عن طبيعة فيلمه المتخلية عن أبسط وأهم القواعد السينمائية “الحكاية بشخوصها”، بعد أن شاهد الجمهور لمدة تزيد عن العشر دقائق، أقدام مختلفة تروح جيئة وذهاباً دون هدف، ودون أن نرى شخوصاً، أقدام فقط،  قال: “من وجهة نظري ليس بالضرورة أن تكون الرؤية كاملة، فالرسالة التي أردت أن تصل من خلال الفيلم أن هذه الرؤية يمكن أن تكون مجتزأة، وهناك جزء كبير من الحقيقة لا يكون واضحاً، وفي الحقيقة، أنا راهنت على هذه الفكرة، وعلى مدى تلقيها من قبل الجمهور، وبرأيي أنها أحد شروط العرض السينمائي”، إلا أن “إدريس” فاته أن وجهة نظره ليست هي الوحيدة التي يجب أن يأخذها بعين الاعتبار، خصوصاً في زمن لم تترك فيه الواقعية المفرطة التي صدرتها الحرب في سورية شيئاً مثيراً للدهشة بعدها، كأفلام اليوتيوب الواقعية التي تابعها ويتابعها الملايين من المتفرجين، من قتل، وذبح، وتقطيع، وتنكيل، ووو…. والتي لا تحتمل التأويل أو الشك بواقعيتها الدموية، حتى لو كان المشهد المقدم هو مجموعة من الناس تلعب كرة القدم، ولكن مع فارق بسيط، وهو استبدال الكرة “برأس إنسان”، وأحد المشاهد التي ستجعل من الخيال العنفي الأمريكي بتطرفه السينمائي، شيئاً قديماً ومستهلكاً، قدمه الواقع وبإفراط في دول الربيع العربي، فما بالنا بما صنعته وستصنعه لواقع سينمائي بطيء النمو كما هو الحال في سورية.
كما أن القواعد والشروط السينمائية المتعارف عليها كأساسيات صناعة السينما، والتي يعتبر معيار توفرها في الفيلم هو ما يجعله فيلماً لا شيء آخر، ليست وجهة نظر، إنها قوانين صارمة، والهيكل القوي الذي ستستند إليه أية فرجة سينمائية، قبل أن تطلق العنان لوجهات نظرها.. أعتقد أن الجمهور السوري ملّ فعلاً الأفلام الرمزية ذات الدلالات التي يقدم صاحبها على شرحها شفوياً لنعرف المراد منها، في الوقت الذي يجب على ما صنعه هو أن يقدم نفسه بنفسه.
تمام علي بركات