ثقافة

منمنمات سورية.. هذا أكثر من غياب..

لم يكن على علاقة طيبة مع الموت، إذ غالباً ما توقعه وهو يجلس مطمئناً في بيته وبين أصدقائه، ولأنه يخلف مواعيده غالباً، ولأنه عياش الذي تلفن لزياد الرحباني، ولأنه طفل كهل بلحية شابَ نصفها السفلي، ولأنه كان دائم الشكوى من حرائق قلبه، ولأنه اطمأن أخيراً إلى أن الموت لا يأتي لمن يرتدون زياً عسكرياً ويحملون بندقية، ذهب لينتقم لأخيه الذي غادر البيت قبل مدة ليست بالبعيدة ليقايض الحياة بعلبة تبغ، ولأنه ولأنه ولأنه، ذهب ولم يعد.
كان ذهاباً هادئاً يا صديقي، لم يشعر به أحد حتى أنت، حتى أنا لم أشعر به، لأن الطلقة عندما تخترق القلب، يبقى القلب حائراً، هل هي في حناياه أم أنها ترسم أثلامها على حائط الزمن، ذاك الذي لا يزول عنه الأثر أبداً. الآن إذا أردت أن أعرف أين أنت، فأنا أكيد من العنوان، وواثق من كوني سأجدك مستسلماً لأوهامك العميقة، كنبي ينتظر وحيه، وحيداً كذئب الفرزدق، نائماً كرجل يغفو فوق وسادة طفل. ولكن لم تقل لي يا صديقي هل فعلاً مازال الموت يخيفك…؟!

موت يتنزه على “البسكليت”
“أبو حسن” الشاب السوري الطيب القلب، لم يكن مستعداً كفاية لينال نصيبه من الحرية النبيلة التي لم يشعر يوماً أنه محروم منها، طالما أنه يستطيع أن يغني العتابا ويشرب “العرق” مع “مازة” فقيرة ويكتب شعراً طيباً يشبهه، عندما فاجأته الحرية بزيارته، وهي تمتطي ظهر “بسكليت”. ظلّت “البسكليت” حلماً راوده طويلاً في طفولته الفقيرة، إلا أنها جاءته في أربعينه وهو عائد من عمله في أحد المشافي التي استطاع بنبله وطيبة قلبه أن يكسب مئات الصداقات من ذوي المرضى المقيمين فيه نظراً لخدماته التي كان يقدمها لأولئك الناس دون أن يدري من أين هم؛ الأمر الذي لم يعنِه لا من قريب ولا من بعيد، وكم كنت أسمع دعوات النساء والرجال القادمين من محافظات أخرى لهذا الرجل الطيب مقابل تلك الخدمات التي كان يوفرها مبتسماً بخجل لجملة: “الله يخلي ولادك”. شاب طيب يغني العتابا ويجد روحه ترفرف بين حناياها، جاءته السيدة “حرية” مشمّرة عن ساقيها، واحتضنته بقوة مخلّفة في جسمه أكثر من 500 شظية جعلته من سكان العتبة الفاصلة بين الموت والموت، باسم من أولاد العساكر، من رحم يكاد النفس فيه يختنق، أحبته الحرية مع اثنين من أصدقائه، وضاجعتهم ثلاثتهم مرة واحدة، خيبت ظنه؛ فهو لم يكن يتوقع أن تكون قاسية ووعرة لهذه الدرجة، ورخيصة لكنها وجدت في طيبة قلبه ما يشجعها على أن ترفع سعرها ليدفع ثمن تلك المعانقة غالياً وغالياً جداً، قبل شهرين الحرية ذاتها زارت أخاه الصغير ابن السبعة عشر عاماً، ولم يحتمل قلبه ثقلها وقتامة قلبها، فذهب ليرتاح من تلك الزيارة الثقيلة الرائحة، في قبر تحت شجرة ليمون في قريته، “هؤلاء الأصدقاء داسوا عنب الذاكرة وخرجوا مني بلا أثر” كانت تلك واحدة من قصائده القصيرة التي لم يسمع بها أحد سواه وسواي، وربما الله، الذي اعتاد أن يسترق السمع لنميمتنا المنعشة عنه، هو الآن يكتب قصيدة أخرى في أماكن أخرى أقل ضجيجاً، يقول في مطلعها: “حبيبتي ترسم أشجاراً وجبلين تشرق الشمس من بينهما، ولا تنسى أن ترسم نهراً يتدفق في سهول لم تعد مشغولة بأشجار الليمون بقدر ما هي مشغولة بحطب الموت..حبيبتي رسمت بيتاً صغيراً، من شباكه الصغير يشع ضوء باهت لم تستطع الستائر التي رسمتها بالكحلي أن تحجب النور الخفيف الظل المنبعث منه.. رسمت أيضاً باباً صغيراً في الزاوية وحديقة فيها أزهار أكبر من البيت.. حبيبتي رسمتني ميتاً، وعندما سألتها لماذا ألبستني قميصاً أحمر لا أحب لونه، قالت: ولكن لست أنا من رسمه. هكذا فجأة استيقظت صباحاً لأجدك ترتديه. باسم: لماذا كذبت عليّ ولم تخبرني أنك تحب اللون الأحمر، لم يجبها كان مشغولاً بلمّ الحطب من لوحتها وغرس بذور جديدة ستصير شتلات تبغ..ثم وبضربة فرشاة واحدة، جعل اللوحة موال عتابا شربه على الريق، غنّاه وهو يرتدي القميص الأحمر القاني.. “لاكتبلك بدمع العين كلمات يلي جيتي تسألي المحبوب كل مات..ذكريني يا عيون السود كل ما تشوفي الشمس مالت عالغياب”. باسم يا باسم لماذا تركت موتي وحيداً ..أفق يا حبيبي …أفق.. أطلت الغياب.

تمام علي بركات