اقتصاد

بعد دوره الثانوي.. حيثيات المرحلة تتطلب أن يلعب دور البطولة كوارث سوء التخطيط الملموسة قضّت ولاتزال مضاجع شريحة كبيرة على مر العقود الأخيرة

يفترض أن يكون التخطيط بطل المرحلة المقبلة، وعلى صانع القرار وضع هذا الأمر على رأس الأولويات، ولعل ما تمخّض عن سوء التخطيط –إن لم نقل غيابه خلال العقود المنصرمة– يعدّ بمثابة دروس يجب الاستفادة منها كي لا نلدغ من الجحر أكثر من مرة، فالتخطيط بشقيه (التكتيكي والاستراتيجي) وما ينتج عنه من نتائج تتناسب إيجابياتها طرداً مع حُسن مستوى ما خُطط وما دُرس، بمثابة البوصلة التي تحدّد مسارات التوجه الصحيحة.. أما سوء التخطيط فيؤدي إلى نتائج لا تُحمد عقباها، فكيف إذاً بغياب التخطيط بالمطلق؟ فحتماً ستكون النتائج كارثية…!.
يندى لها الجبين
تاريخنا التنفيذي –إن صح التعبير- يزخر بأمثلة كثيرة عن سوء التخطيط تارة، وغيابه تارة أخرى، وما تمخض عنهما من نتائج يندى لها الجبين، فأبرز كوارث سوء التخطيط الملموسة -والتي قضّت على مر العقود الأخيرة ولاتزال– مضاجع شريحة كبيرة من سكان سورية، هي تلك التي طالت قطاعنا العقاري المتخبط سواء من جهة أسعاره أو من جهة توسعه حسب الحاجة والطلب، ناهيك عن الاحتكارات الصغيرة منها والكبيرة، وما جلبته من ويلات أطاحت بمحتاجي السكن إلى العشوائيات وما يكتنفها من سوء خدمات ومعيشة ضنكى، ورغم أن بداية سوء التخطيط أو عدمه –إن صح القول- تعود إلى ستينيات القرن الماضي، إلا أن الدولة لم تستدرك ذلك عملياً، تاركةً الأمور تسير بشكل عفوي دونما تدخل يصحح مسارها وتوجهها نحو هدف محدّد.
مضاربة
تفيد المعلومات الصادرة عن بعض الجهات المعنية بالشأن العقاري العامة منها والخاصة، أن كل مشاكلنا العقارية تعود إلى نقص التخطيط والرؤية المستقبلية لهذا القطاع خلال العقود الماضية، حيث لم يؤخذ بالحسبان النمو الطبيعي وتزايد عدد السكان –خاصة وأن سورية من أعلى نسب التزايد في العالم- إضافة إلى الهجرة من الريف إلى المدينة تبعاً للمواسم الزراعية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ما شكل ضغطاً كبيراً على مراكز المدن، وأوجد المضاربة على المتوافر من السكن.
غياب
تشير بعض مصادر وزارة الإسكان والتنمية العمرانية إلى أن القانون رقم 60 الصادر عن حكومة عبد الرؤوف الكسم والخاص بالتنظيم العمراني ومنع توسع المدن وإحاطتها بحزام أخضر بهدف المحافظة على خصوصية كل مدينة، لم يطرح مناطق عقارية تنموية بديلة لتأمين السكن واستيعاب الطلب المتنامي عليه، ما أدى بالنتيجة إلى انتشار المخالفات في محيط المدن وخاصة دمشق، وهذا يعود لغياب التخطيط الجيد، فكل الدول الحديثة تقوم بوضع مخطط هيكلي عام للدولة وتحدّد البنى التحتية اللازمة والمحاور المطلوبة لتنمية القطاعات الاقتصادية، وتأمين الأراضي المتاحة للتطوير العقاري والسكني.. الخ.
منقوصة
يعتبر أحد التقارير الصادرة عن وزارة الإسكان والتنمية العمرانية أن سورية من أول الدول العربية التي لحظت ومنذ منتصف القرن الماضي موضوع الإسكان ضمن سياساتها الحكومية، إلا أن هذه السياسات اقتصرت على توجهات وإجراءات وخطط لم ترتق لمستوى إستراتيجيات محددة الأهداف، وحتى التوجهات الواضحة لم تترافق في أغلب الأحيان بتأمين مستلزمات تنفيذها، وتعبر الفترة الممتدة حتى منتصف السبعينات، بما تضمنته من تشريعات وأنظمة إسكانية وبشكل واضح عن رؤية ذات أبعاد اجتماعية لدور الدولة في هذا القطاع، تمثلت بسياسات الدعم والإعفاء، لتتبدل هذه الرؤية لاحقاً، خلال الفترة الممتدة من منتصف السبعينات حتى عام ٢٠٠٠، حيث بدأت الدولة تتراجع عن هذا الدور تدريجياً، عبر العديد من التشريعات ذات الطابع الاقتصادي دون النظر للمنعكسات الاجتماعية لها، لتصبح قضية الحصول على مسكن في معظم المدن السورية تشكل تحدياً حقيقياً لمعظم شرائح المجتمع، ونتيجة لذلك بادرت الحكومة بعد عام ٢٠٠٠ لدراسة وتحليل واقع قطاع الإسكان والتشريعات الناظمة ذات الصلة.
أسباب موضوعية
وأوضحت مصادر الوزارة أن تحليل واقع هذا القطاع أظهر وجود تأخر بإنجاز المخططات التنظيمية العامة والتفصيلية لمناطق التوسع العمراني، وبالتالي عدم تأمين الحاجة الحقيقية من الأراضي المعدة للبناء، وتعثر خطط ومشاريع الإسكان (العام والتعاوني) لأسباب موضوعية، أهمها عدم تأمين الأراضي اللازمة لها، وأسباب ذاتية تتعلق بإدارات هذين القطاعين، إضافة إلى عدم إتاحة الفرصة للقطاع الخاص المنظم للمشاركة بتنفيذ السياسات الإسكانية المقررة للدولة لقصور أو غياب التشريعات التي تضمن قدرته على تنفيذ هذا الدور، إلى جانب النتائج السلبية لقانون الإيجار السابق والذي كرس علاقة غير متوازنة بين المؤجر والمستأجر، أدت لغياب شبه كامل لصيغة الحيازة بالإيجار عن سوق الإسكان في سورية، وبقاء ما يقارب نصف مليون وحدة سكنية شاغرة، تشكل نحو ١٥% من المخزون الإسكاني التراكمي في سورية.
أن تصل متأخراً
أن تصل متأخراً أفضل من ألا تصل أبداً.. فعلينا التعلم من المطبات التي تواجهنا وأن نجعلها دروساً لنا، نستفيد منها وأجيالنا اللاحقة، فما عجز الأولون عن تخطيطه ودراسته كما يجب –ليس في العقار وحسب بل في المجالات كافة- علينا استدراكه علّنا نضع أقدامنا على الطريق الصحيح لدروب التنمية خاصة في هذه المرحلة بالذات، وألا نجعل التجارب عنواناً لمرحلة الإعمار.
دمشق– حسن النابلسي