ثقافة

في كتابه “فصاح العامية” ممدوح خسارة: لا أدعو للعامية بل للفصيح منها

لأن اللغة العربية ظلَّت لغة حية رغم عوادي الزمن التي أتت على كثير من اللغات، وهي صالحة لكل زمان، غنية بمشتقاتها واستعاراتها، بحيث تتسع لكل مستحدث وجديد كما قال عارف النكدي ذات مرة تساءل الإعلامي عبد الرحمن الحلبي في بداية ندوة “كاتب وموقف” التي اعتاد أن يقيمها في مركز ثقافي أبو رمانة عن الغاية من المعاجم التي تتحدث عن فصاح العامية كمعجم “فصاح العامية” لممدوح خسارة الذي يرى فيه الحلبي جهداً مضاعفاً يضيف إلى جهود سابقة بذلها أساتذة لغويون حباً بالفصحى وخدمة لها كهشام النحاس من خلال معجمه الصادر في تسعينيات القرن الماضي تحت العنوان ذاته “فصاح العامية” مؤكداً الحلبي في الوقت ذاته أن خسارة اجتهد في معجمه الصادر عام 2011 بجعله الكلمة الشفاهية تقاس على الكلمة التدوينية بالاعتماد على أمهات المعاجم والكتب و”لسان العرب” بخاصة، وهو بذلك يقدم قراءة جديدة وجريئة في هذا الضرب من التأليف المعجمي.

أما ممدوح خسارة فيؤكد في الندوة التي شاركت فيها أيضاً د.منى لياس أنه حرر المعجم وفق قاعدة اللغويين القائلة “لغات العرب كلها حجة” وقد علل في معجمه هذا قول كثير من الكلمات العامية ما دام السماع قد ورد بها في لغة من لغات العرب، معلناً التنبيه في الآن ذاته إلى أن كل دراسة للعامية بغية تجذريها والتقعيد لها مفسدة وتخريب، وأن كل بحث يرمي إلى تفصيحها وتقريبها من السلامة اللغوية محمدة، وهي من مهمة الباحثين الذين انتدبوا أنفسهم لخدمة ثقافتها، مشيراً إلى أننا اليوم في ساحة وغى، طرفاها المدافعون عن اللغة والمهاجمون لها، وقد أثبت المدافعون حضورهم، ومُني المهاجمون بفشلهم.
ويبيّن خسارة أن الحديث عن الفصحى والعامية مسألة قديمة، فمنذ الجاهلية كان هناك ما هو فصيح وما هو عامي، فالقول “مكره أخاك لا بطل” لهجة قديمة لا وزن لها في العربية، ونحن اليوم نستعملها لأنها صارت من لغتنا لأن كثيراً مما كان يسمى في القديم عامي هو اليوم فصيح، والدليل أن العرب كانت تقول فصل القيظ، والعامة كانت تقول فصل الصيف، وهو ما أدرج على استخدامه اليوم.. إذاً فالعامية قضية قديمة باعتبارها مستوى من مستويات اللغة، وهي موجودة في كل أنحاء العالم، ولذلك يشير خسارة إلى أن مؤلفات كثيرة ومنذ زمن بعيد تناولت هذا الموضوع، وهناك من سبقنا إلى التأليف في فصاح العامية ليؤكد اللغويون أن العامية ليست كلها خطأ أو غير سليمة كما كان بعضهم يروج، والدليل على ذلك أن الكسائي ألَّف معجمه “لحن العامة” عام 189 في حين ألَّف العالِم ربيع الدين الحنبلي عام 760 كتاباً أسماه “بحر العوام” فيما أصاب فيه الناس من الكلام مبيناً فيه أن ما تستعمله الكثير من العامة هو صائب فصيح، ليأتي في العصر الحديث عالم كبير اسمه أحمد رضى العالمي وقد ألَّف كتاباً في العامي والفصيح، ثم جاء شفيق جبري فاستخرج ما في لغة أهل الشام من كلمات فصيحة ودعا إلى عدم محاربتها، موضحاً خسارة أن قضية الفصيح والعامي نالت اهتمام كثير من اللغويين لأنهم يريدون التأكيد على أن العامية ليست شراً بالمطلق باعتبار أن فيها ألفاظاً صحيحة وسليمة ويمكن استخدامها ما دامت فصيحة، ويستغرب خسارة من الذين يعتبرون أن هذه اللغة إن تكلمتها العامة صارت مرذلة، لذلك يبين أنه يجب أن نعود إلى لغتنا الفصيحة، فإذا كانت هناك كلمة فصيحة يستعملها العامة فهي الأَولى بالاستخدام برأيه لأنها معروفة لديها أفضل من أن ننبش كلمة قاموسية غير معروفة أو غير مستخدمة ونقول لهم استعملوها؟
وبما أن للعامية وجهين: كلمة عامية وجملة عامية فإن المشكلة برأي خسارة تكمن حينما يتم الخروج عن نظام الجملة العامية، فهذا الأمر غير مقبول، ولذلك يركِّز في معجمه على المفردات فقط، ملتزماً بما جاء في لسان العرب.
كما يوضح خسارة أن الانتقادات التي وجِّهت إليه كانت ناتجة عن ظن بعض الزملاء أنه يدعو من خلال كتابه إلى استخدام العامية، في حين أن دعوته كانت تقوم على الارتفاع بمستوى العامية عبر تغذيتها بالكلمات الفصيحة رداً على من  يدعو إلى عدم الاقتراب من بعض الكلمات الفصيحة لمجرد أن العامة استخدمتها.
وتؤكد د.منى الياس أن العربية لغة شريفة، ولو لم تكن كذلك لمَ نزل بها القرآن، ونحن اليوم في عصرنا هذا نفهم الشعر الجاهلي، والسبب برأيها أن التركيبة اللغوية للجملة مازالت ثابتة ولم تتغير، والخلاف اليوم هو حول معاني المفردات التي تغيرت بحكم الزمن والتطور، في حين أن بنية الجملة لا تزال كما هي “جملة اسمية وفعلية.. فعل وفاعل.. وبالتالي فإن الناعقين على العربية برأيها يظلمونها من خلال القول أن هناك هوة فظيعة بين العامية والفصحى مع أن كل لغات العالم فيها ما هو عامي وما هو فصيح، وتأسف د. إلياس لأن البعض يبالغ في تهويل الأمر، ومن  هنا تأتي أهمية كتب مثل معجم خسارة الذي يهدف إلى ردم هذه الهوة وليقول أن العامية ليست شراً كلها، موضحة أن الألفاظ تعيش حين يتاح لها الاستمرار والحياة، وبعضها يموت بفعل الزمن، مشيرة إلى أن المعنيين باللغة معنيون بتتبع ما يطرأ على لغاتهم، منوهة إلى أن المخاطر الحالية على اللغة تكمن في وسائل التواصل الاجتماعي واللغة الركيكة المستخدمة فيها.
وتختتم الياس كلامها مؤكدة أن العلماء الأجلاء حريصون على اللغة العربية، وما من أحد عاقل يدعو إلى العامية، ولكن ما هو مطلوب ردم الهوة بين الناس واللغة وتعريفهم بلغتنا دون استبداد أو تعجيز، ولذلك يخاطب خسارة في كتابه برأيها طرفين: الذين يريدون أن تسود العامية، والمتشددين الذين لا يقتنعون أن اللغة كائن يعيش ويتطور باختلاف الدلالات والحضارة.
أمينة عباس