اقتصاد

قطاع أعمالنا أمام اختبار حقيقي هو الأوّل من نوعه بعضه صمد وأنتج وبعضه الآخر أغوته مقولة: “رأس المال جبان”..

لعل الأزمة الحالية شكلت أول اختبار حقيقي كشف حقيقة رأس مالنا الوطني وروّاده الذين لم يتوانَ بعضهم لحظة شعوره بالخطر على ثروته واستثماراته عن اتخاذ قرارات سريعة دحضت كثيراً من مزاعمه بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وما تسريح العمالة –ومعظمها- غير مؤمّن اجتماعياً، والهروب إلى الاستثمار في الخارج، إلا دليل دامغ على نكران الجميل، وإيمانهم المطلق بمبدأ (رأس المال جبان) الذي على ما يبدو بات منهجاً رئيساً في عملهم، ودفعهم إلى البحث عن أسواق جديدة يمكن أن يحققوا فيها طموحاتهم المالية غير المحدودة تتمتع بمزيد من الاستقرار وميزات تنافسية في عدد من الصناعات لضخ استثمارات جديدة فيها، يستمر من خلالها دوران عجلة إنتاجهم.
أحد كبار تجار دمشق ألقى اللوم على إعلامنا الوطني أثناء الحديث معه عن دور رجال الأعمال في هذه المرحلة بقوله: (كفاكم جلداً بالتجار والصناعيين الذين يعملون ليلاً نهاراً دعماً للاقتصاد الوطني، فهؤلاء يستحقون بطاقة شكر يومية لما يقومون به من جهود مضنية في ظل المنافسة القوية التي تواجه الصناعة السورية)!.

امتيازات ولكن!
بالتأكيد نحن نقدّر ما تقوم به شريحة قطاع أعمالنا من دعم للاقتصاد الوطني، ولا نقصد من تناولنا هذا الموضوع التجنّي على رجال أعمالنا من التجار والصناعيين والنيل من جهودهم، وإنما القصد هو الوقوف على ما تحتّمه المرحلة الراهنة من التزامات لابد من الاضطلاع بها كلّ حسب موقعه، ولاسيما أن شريحة قطاع الأعمال حصلت على امتيازات ضريبية أبرزها ما لخّصه الدكتور محمد خير العكام المتخصّص بالمالية العامة والتشريع الضريبي، بقوله: إن التشريع الضريبي يخدم رجال الأعمال أكثر مما يخدم ذوي الدخل المحدود، على اعتبار أن المشرّع زاد معدلات ضريبة الرواتب والأجور فرفعها بالشريحة الأخيرة من 15% إلى 20% وهذا على حساب العدالة الضريبية، بينما معدلات ضريبة الأرباح انخفضت من 66% عام 1949 إلى 45% عام 1991 ومن ثم إلى 35% عام 2003 لتنخفض عام 2006 إلى 28%، في حين معدلات الرواتب والأجور ارتفعت بدلاً من أن تنخفض وهذا على حساب العدالة.
نكران
رغم أن سورية بلد الامتياز الحقيقي للاستثمار، إلا أنه لم يكن لذلك انعكاس ملموس على مجالات التنمية الحقيقية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، ولعل سلطاتنا التنفيذية تتحمل المسؤولية في هذا الجانب، عبر جذبها لمستثمرين لا يبالون بردّ ولو جزء مما منحته من تسهيلات استثمارية، تماماً كمزارع يستنزف خيرات أرض خصبة بزراعات على مدار مواسم متتالية دون أن يغذّيها بما يلزم من أسمدة ومواد عضوية فتتحوّل إلى أرض قاحلة، ويبحث المزارع بدوره عن أخرى أكثر خصوبة! ولعله من المناسب هنا أن نستذكر ما قام به رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد خلال أزمة المضاربة التي قام بها رجل الأعمال الأمريكي جورج سيروس في محاولة منه لضرب الاقتصاد الماليزي، حيث لجأ رئيس الوزراء آنذاك إلى منع المستثمرين من مغادرة بلاده لمدة عام كي يستعيد الاقتصاد عافيته، وبعد انقضاء فترة المنع فتح المجال لمن يرغب من المستثمرين بمغادرة البلاد، فما كان منهم إلا أن تراجعوا عن قرارهم السابق وآثروا البقاء ومتابعة الاستثمار في ماليزيا.

الرأي..
أحد المستثمرين اعتبر في تصريح خاص لـ”البعث” أن القوانين السورية غير متناغمة ومتناقضة في كثير من الأحيان، ما يجعل المنتج السوري يواجه صعوبة بالغة في الصمود أمام المنتجات الأجنبية والعربية، مبدياً خشيته من احتضار المنتج السوري، فلا يجوز –على سبيل المثال– أن ندعم الصادرات ونعيق بطريقة ما الصناعة، لذلك لابد أن تكون جميع القوانين في حزمة واحدة لدعم التصدير والصناعة ورفع القدرة التنافسية لمنتجاتنا، مضيفاً: إن أسعار المواد الأولية في دول الجوار أقل منها في سورية، كما أن النسب الجمركية في بلادنا أعلى من مثيلاتها في دول الجوار والدول المنافسة، وبناء عليه لا يمكننا الصمود والمنافسة.

..والرأي الآخر
بالمقابل نجد أن هناك قامات اقتصادية ذات شأن كبير عملت بصمت منذ زمن طويل بعيداً عن الأضواء، ولها بصمات واضحة في اقتصادنا الوطني، وقد آثرت البقاء رغم تداعيات المرحلة، ولم تقم بتسريح أي عامل رغم أنه سبق لها أن اكتوت بنيران التأميم التي نعتقد أنها كانت أشدّ وطأة من الظرف الحالي على الأقل بالنسبة لقطاع الأعمال، ومع هذا كله لم تثنِ عزيمتها وبقيت راسخة في مشهدنا الاقتصادي كعلامات فارقة تصعب إزالتها متحدّية كل الظروف والصعوبات.

أخيراً
مرت فترة طويلة على سورية كانت الحكومة فيها بمنزلة الأب الذي يرعى المواطنين والمنشآت الاقتصادية عبر دعمها بالمحروقات وغير ذلك من وسائل الدعم التي كانت تقدّمها لقطاع أعمالنا، واليوم تعيش سورية مرحلة حرجة تستدعي أن تكون فعاليات هذا القطاع على قدر كبير من تحمّل مسؤولياتها، لا أن تهاجر بعد أن قطفت ثمار امتيازات ما كانت لتحققها في كثير من دول العالم، وخاصة تلك التي نشأت وترعرعت من ألفها إلى يائها في ظل حماية ورعاية حكومية، وللإنصاف نذكر أن بعض رجال أعمالنا ممن لمعت أسماؤهم وشهرتهم الاقتصادية في بلاد الاغتراب، لم يتنكّروا لبلدهم في ظروفه الحالية فقدّموا مبادرات إنسانية وخدمية للمتضررين على اعتبار أنه (ما حكّ جلدك مثل ظفرك).

دمشق – حسن النابلسي