ثقافة

“سهراب سيهري”.. شاعرٌ تلقي الطبيعةُ في قصيدته وشاحها

إن جئتم في طلبي مهلاً
تعالوا على رؤوس أصابعكم
كي لا تنفطر آنية وحدتي الخزفية الرقيقة.
حساسية مفرطة ومختلفة في مقاربتها الشعرية لاختلاجات وجدانية يخطها الشاعر الإيراني “سهراب سيهري” في المجموعة الشعرية المسافر الصادرة عن وزارة الثقافة السورية بالإضافة إلى مجموعة من مختارات شعرية أخرى تضمنها الكتاب في متنه.
ما يشدّ القارئ إلى نتاج هذا الشاعر هو البساطة الشديدة التي تتسم بها مفرداته الشعرية وتراكيبه اللغوية بإيحاءاتها اللفظية ومعانيها الحارة اللائذة بالوحدة بمعناها الوجودي، وبما ترخيه على نصه من تراكم صور كثيفة الظلال الغنية بالتوق المرهف المعبّر عن جوانياته الصامتة بعيداً عن التكلف والزخرفة اللفظية المجانية، وهو إذ يتخذ من الوحدة ومراميها القاسية نوعا ماً، مدخلاً لعالمه الداخلي الأرحب فإنما يسعى بذلك إلى ردم الهوة بين الذات الشعرية المنغلقة على عوالمها الخاصة بما تعكس تلك الرهبنة من أثر صوفي في حياكة شعر شخصي لا ينتظر أن يقرؤه أحد، باعتباره صوتاً داخلياً منفرداً، وبين الروح وحاجتها الغريزية التواقة لتكسير صيرورة الزمن ورتابته من خلال العدو في أبعاد غير منظورة لرحابة الشعر وتداعياته الحياتية المأزومة بفعل تخلي عالم الشاعر الخارجي عن المبادئ والقيم الإنسانية والفكرية لرسالة الفن عموماً، ورؤيته لقضية محض وجودية كالوحدة بكثير من السلبية أو الاستلاب والارتهان لمناح مادية تحدّ من جنوح الشعر بشكل خاص والفن بشكل عام في ارتياد أقاص مجهولة وعوالم ما ورائية عصيّة على العقل المدجن والفكر المعلب الجاهز لسكبه فوق أي قالب كان، تماهياً مع متطلبات العصر الجنونية وطبيعته الهدامة لكل خصوصية تخفي في أعماقها مناخات تعانق الحياة والموت بالحرارة ذاتها، وهذا حال صاحب ديوان “موت الألوان” الرافض للانجراف مع تيار العولمة، بما يمثله هذا التيار من احتقار لكل ما هو خصوصي وتعميمه قيمه على كل مفردات الحياة. يقول سهراب: (قلت لهم ليس الصخر زينة سلسلة الجبال، كما ليس المعدن زينة على قوام المعول، على سطح الأرض جوهر مجهول ذهل الأنبياء من إشعاعه، ابحثوا عن الجوهر، خذوا اللحظات من مرتع الرسالة).
تمتاز قصائد صاحب “شرقي الحزن” بالخيال الحر عموماً، منطبعاً بشيء من السريالية في بحثه عن مفاهيم متباينة في نزوعها نحو الفردية ولعبة التصادمات الشكلانية ميزة الشكلانيين الروس الفريدة في أعمالهم الأدبية، وذلك من خلال لعبه على المتناقضات اللفظية وتصادم المتناقضات كالعتمة والنور والنار والماء والدنس والطاهر نظراً لما تمتلكه تلك اللعبة الشعرية من قدرة على إطلاق الطاقات الإيحائية الكامنة في المحتوى الدلالي شكلاً ومضموناً، وذلك من خلال لغة بسيطة ومدهشة فيها الكثير من الحيوية المراوغة وصيغ التحالفات المضادة بين أشيائه البسيطة وتعقيدات العالم المحيط به من حياة الهامش والتخوم، وما لشعره من قدرة على كشف الأرواح الطاهرة تحت قشرة الأحجار وإخماد الواقع الفظ الذاهب بالإنسان نحو تشيؤه وربطه بالآلة أو جعله جزءاً أصيلاً منها، لذا سنراه في مجمل قصائده يخاطب مفردات الطبيعة بكثير من التبجيل والتقدير مكتفياً بما تمنحه إياه من سلام وهدوء داخلي دون تكلف أو مشقة، محتفلاً بالبساطة كخياره الوحيد في انسحابه من عالم لا يكل عن محاولته لإخضاع الإنسان للأخلاق التكنولوجية وربطها بمستوى تقدمه ورقيه الحضاري، لذا استغنى شاعرنا عنها وعن طغيانها الأعمى مقتنعاً بأشيائه البسيطة الكافية لبقائه حراً، كما أنه ابتعد في حياته عن كل شيء إشكالي يحزّبه ويخندقه في مذهب ضيق يخنق روح الشاعر التي فيه، يقول في إحدى قصائده الرائعة (أحوالي ليست سيئة عندي كسرة خبز وبعض ذكاء ومقدار رأس إبرة من الذوق، لي أم أفضل من وريقة شجرة وأصدقاء أفضل من الماء الجاري، مسلم أنا قبلتي وردة حمراء، مصلاي ينبوع وحصاة سجودي من نور، أتوضأ بنبض النوافذ ويجري في صلاتي قمر).
شعر سهراب متحرّر من قيد الوزن والعروض والقافية ويحوي في مضامينه الذاتية موسيقا عذبة تصدر عن مرادفات حسية يتداخل اللون في تشكيل وجدانها، فصاحب “وقع خطوات الماء” فنان تشكيلي قبل أن يكون شاعراً، والكثير من قصائده أقرب إلى رسم اللوحة، إذ غالباً ما ينسحب صوته الضمني في قصيدته لصالح الحركة والخط والتشكيل، مستمداً هذا الصوت الدافئ حضوره من تركيبة مفردته التشكيلية ليمسك من خلالها بسر لحظته الإبداعية، من تمازج الألوان وما تنتجه من ألوان أخرى أكثر يناعة ونضارة.
تدعو قصائد سهراب بكثير من الهدوء إلى إعلاء قيم الحق والخير والجمال في نزعة زرادشتية أصيلة لخلق علائق نبيلة مع مفردات الطبيعة التي ينهل من عوالمها اللامتناهية صوره الشعرية البسيطة وتراكيبه اللغوية البعيدة عن التعقيد والمواربة أحياناً، ففي قصيدة “الغريب” نراه يحاكي غصناً بحوار وجداني مضمخ بالوله والحب (أيها الغصن لا تخف من نباتي، تلقف أصابعي ليس من شوق الجذب بل من ظمأ المعرفة)، ثمّة رغبة حقيقية للتماهي مع غموض الطبيعة والانجراف مع السيل الذاهب نحو المنحدر وكأنه تفاحة طافية، إذ يبرع نصه بالإمساك باللحظات الهاربة من خاصرتها وشدها إلى عوالمه السحرية سواء في تراكيبه الشعرية أو في الطبيعية التي تسم علائقه بين الأدوات المنظورة لحدسه الشاعر وعينه التي ترى ببراعة الحد الفاصل بين المرئي والمتواري في لب الأشياء، دون أن يطغى أحدها على الآخر، فالحساسية التي يخلعها “سيهري” من روحه على جسد قصيدته تتغلغل في بنيتها وتذهب عميقاً في مفاصلها الروحية حتى لكأنه يتكئ على جذع أمنية ويسرد الفاكهة.
تمام علي بركات