ثقافة

إلى شاعر شاب (*)

لا يكفي أن تكون ناطقاً، أو ضاحكاً، حتَّى تصنَّف إنساناً، لأنَّ الإنسان حيوان يقول الشعر، أو يتذوَّقه، على حدِّ تعبير شاعرنا الكبير نزار قباني.
– هل تعرفون ما أوَّل هديَّة قدَّمها الإنسان البدائيُّ لمحبوبته؟
– وردة بريَّة.
لكن بعد أيام، خرج من كهفه متلهِّفاً لرؤيتها، قصد الحقل القريب وجده مصفرَّاً، لا ورود فيه، فمضى إليها خاويَ اليدين.
إذ شاهدته عن قرب استغربت:
– أين الوردة؟
أشار إلى فمها:
– ثغرك يشبه وردة متفتِّحة.
فابتسمت له، وتعانقا..
****
قديماً خاطب الله الإنسان بأجمل قول:
” الرحمن..علَّم القرآن.. خلق الإنسان.. علَّمه البيان…”
وسورة مريم جاءت قصَّة مكتملة دفعة واحدة، وعلى شاكلة الشعر:
“واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيَّا  فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّل لها بشراً سويَّا…”
ومن قبلُ التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب سماويَّة وشبه سماويَّة. كذلك عندما أراد الإنسان أن يتقرَّب من خالقه وجد الشعر وسيلته الأنجع..
وهنا لا بدَّ من تذكُّر مآثر أجدادنا العرب الَّذين كانوا يعلِّقون القصائد البديعة، مكتوبةً بماء الذهب، على أستار الكعبة، ويتعبدونها مع آلهتهم حينذاك: اللاة، عزى، وهبل.. فما أعظمه يوسع الكون من حولنا، ولعلَّه شيللر من قال: “إنَّ الشاعر وسيط، تعبِّر الطبيعة– من خلاله– عن نفسها”.
خروج عن ثابت المألوف
بينما القصيدة العموديَّة القديمة – على الوزن والقافية – تصاب بالرتابة والإملال، تستبدل قصيدة التفعيلة بوحدة البيت وحدةَ التفعيلة في بناء قصيدتها، وعليه تتحرَّر القافية من لازمة التكرار، فلم تعد قيداً.
بعد ذلك تذهب قصيدة النثر أبعدَ من الوزن والقافية وصولاً إلى نصٍّ بإيقاع داخليٍّ متوتِّر خلال عصر أصبح التأمل والبحث عن المعنى جوهر الشعر الكامن في التخييل، واللغة المفارقة، وجماليات الصورة، كما أنَّ موسيقى القصيدة تنبعث من جرس اللغة، والإيقاع الداخليِّ للنصِّ، وتوتُّره. علماً أنَّ قصيدة النثر جاءت سابقة على قصيدة التفعيلة، الَّتي تيسَّر لها شعراء موهوبون مثل السيَّاب والقباني والبيَّاتي ثمَّ محمود درويش، دفعوها خطوات إلى الأمام. مع ذلك سألنا شاعراً سوريّاً كبيراً:
– ما الَّذي يجعل الشعر شعراً؟ فقال: “كلام جميل، صور مبتدعة، خيال مجنَّح يحلِّق.”
ثمَّ صمت. كان أصدر ديوانه الأول عام 1982 وله عدَّة مجموعات شعريَّة مهمَّة…
أردفنا: “وماذا غير ذلك؟”
أجاب: “وشيء آخر لم أعرفه حتَّى الآن”.
إذاً تأخذ القصيدة الحديثة طاقتها الحرَّة من النثر، ترفد بها مادَّة الشعر، ليصوغ المبدع من مزيجهما قصيدة، تنبض بالحياة، تشعُّ بالرمز والمعنى والدلالة.
لا بأس أيُّها الشاعر الشاب أن تتعمَّق في عروض الشعر، وتكتب على البحر والقافية من أجل أن تقوِّي رهافة أذنك الموسيقيَّة، وتشحذ ذهنك، فقصيدة النثر المواكبة لتطوُّر الذائقة المعاصر لا تخلو من الإيقاع، لكنَّه إيقاع داخليٌّ، وليس خارجيَّاً، يقوم على الغنائيَّة والتطريب.
بعض الشعراء المخضرمين يُسرُّون بتصفيق المستمعين كلَّ بضعة أبيات مع أنَّ هذا يعني أنَّ ما يقدِّمونه يدخل الأذن فيطربها لتصفِّق اليدان، بينما المطلوب التعمُّق في القول الشعري، والتوغُّل في التأمُّل نحو تأثير أعمق يصل إلى حدود الوجدان والمشاعر والأحاسيس، كما لو أنَّنا نستمع إلى سيمفونيَّة خالدة بإصغاء تامٍّ، وإنصات مرهف.
الشعر كلمة السرِّ
– والآن كيف تكتب قصيدة جميلة؟
تخيَّل أنَّك تعشق فتاة غاية الجمال، عاينها في داخلك (أو داخلكِ أيُّتها الشاعرة) ثمَّ تصوَّر نفسك تقابلها، وتريد أن تدهشها، فتبادئك بالقول:
– من فضلك أشعل مصباح قلبك كي أراك. هكذا تحدَّث المتصوِّفة الكبار أجدادنا
عندئذ قدِّم لها قصيدتك، ولتعلم يبقى الشعر ما دمت تحبُّ، وتبحث طوال الوقت عن دهشة تعلِّقها على شفتيّ محبوبتك واضعاً قمر الليل سواراً على معصمها، ونجومَه قوس زينة، تشكِّل بها شعرها الحرير كلَّما تقابلتما.
– استمتع أولاً بما تكتب حتَّى يستمتع به الآخرون.
– اقرأ كلَّ ما يقع بين يديك. طالع ما استطعت: كثيراً لجبران خليل جبران، وشعراء معاصرين، ثمَّ استمع إلى فيروز بتمعُّن، وتأكَّد يا بن وطن حضارته عريقة -هو وطن الدنيا كلِّها– أنَّك تعيش في بلد معطاء اسمه سورية، تفتح لك – يوميَّاً كي تطالع– مراكزها الثقافيَّة، وفروع اتحادات كتَّابها، لتقول ما لديك، فلا تتوانَ عن القدوم إليها.
كثيرون ثابروا على الحضور الدائم، كانت تجاربهم الأولى متواضعة، أصبحوا اليوم يكتبون بشكل جيد. تعال معك نصُّك الجديد، ابحث عن شاعر تقرؤه له، سيكون في خدمتك، ويسعد عندما يراك تتقدم، لأنَّ سوريَّة تعدُّك لمستقبلها الزاهر الجميل، وأنت سوف تخطُّ هذا المستقبل المضاء بالنور غداً.
أصدقائي الشعراء الشبان: احضروا أمسيات شعريَّة وقصصيَّة ونقديَّة، لأنَّكم بحاجة إلى مزيد من الثقافة، كي تصبحوا شعراء. ثمَّ جمِّعوا بعضكم في لقاءات دوريَّة، فالصداقة ليست أن تكون ابن حارتي، أو زميلي في المعهد، أو الجامعة فحسب، الصداقة الحقيقيَّة أهداف وتطلُّعات مشتركة، تسعون إليها معاً، والأدب – لا سيَّما الشعر- هدف سام نبيل جليل…
تناقشوا حول ما تكتبونه، تحاوروا، واستمعوا إلى بعضكم بمودَّة واحترام، ثمَّ تنافسوا: من يكتب أحلى. وبهذه المناسبة أشدُّ على أيدي القائمين على هذا المهرجان: بوركت جهودكم الخيِّرة، فطريق الألف ميل تبدأ بخطوة كما فعلتم، وأدعو إلى مهرجانات أخرى لباقي فنون الأدب كالقصَّة وغيرها نحو مزيد من الاعتناء والرعاية بمواهب شبابنا، لأنَّهم ذخر وطننا الغالي سوريَّة.

أخيراً:
ارجعوا إلى سجلات التاريخ قلَّما تجدون شاعراً – أو كاتباً على العموم- ارتكب جريمة، لأنَّ الأدب يرتقي بنا درجاتِ الإنسانيَّة أعلى فأعلى:
صرخ الجنديُّ:” إنَّهم يتقاتلون بلا رحمة يا سيِّدي”.
فالتفت القائد حواليه. ثمَّ نادى:
– أيُّها الشاعر درِّبهم على الحبِّ حتَّى يوقفوا القتل ويستتب الأمن والسلام في بلدي..

(*) ألقيت في المهرجان الثاني للشعراء الشبان الَّذي انعقد يومي 16-17 حزيران 2014 في فرع دمشق لاتحاد الكتَّاب العرب، حيث قدَّم 7 شاعرات و7 شعراء تجاربهم. ثمَّ وزِّعت في ختام المهرجان جوائز رمزيَّة للمشاركين.

أيمن الحسن