ثقافة

ضبوا الشناتي/ الحقائب .. ملهاة سورية تتفكه من رحابة الوجع

إضافة مهمة وغنية تضفيها ألحان وكلمات الفنان والموسيقي “إياد ريماوي” في هذا الموسم الرمضاني، بعد أن قام الريماوي بكتابة وتلحين شارة المسلسل السوري “ضبوا الشناتي/الحقائب” عن نص للعبقري “ممدوح حمادة” و إخراج حرفي وإبداعي يقدمه المخرج “الليث حجو”.
المخرج والكاتب اللذان صار وجود اسميهما على عمل درامي تلفزيوني، يعني حتماً بأن هذا العمل سيحقق متعة خاصة، إن كان على صعيد الحوار الرشيق والذكي والمدروس، “في ضبوا الشناتي” كما في سابقه من أعمال “حمادة” الدرامية ضيعة ضايعة والخربة وغيرها، وإن كان أيضاً على مستوى كادر المشاهد المشغول عليه بعناية من مخرج “الانتظار” (زمن اللقطات، مناسبتها للجو العام للحوار، رشاقة الكاميرا وتموضعها الصحيح تماماً)، الرجل الذي يتقن بجدارة فن انتقاء الممثلين وإدارتهم.
لن تنفصل شارة المسلسل المذكور التي يقول مطلعها “سفرني ع أي بلد واتركني وانساني” أدتها المغنية “كارمن توكمجي”، عن مضامينه ورسائله الموجهة بمستويات جريئة، رغم احتجابها بالألعاب اللغوية التي يمكر الكتاب بها عادة تلافياً للوقوع في الفخ الرقابي المتبدل مزاجه بشكل ملحوظ  بعد بدء الأحداث في سورية، لتكون أغنية الشارة التي تفاعل الجمهور بحساسية عاطفية معها وبدأ بترديدها كرأي يعبر عن رأيه ولسان حاله، بمثابة مولج حقيقي وفعال في وضع المشاهد بسياق الأحداث الدرامية التي ترتدي لبوس الكوميديا بأسلوب متميز ونادر فعلاً في الدراما التلفزيونية، حتى وهي تقدم أقسى ما يمكن أن يحدث في بلد يكتوي بنار الحرب وويلاتها، فتترات الريماوي الموسيقية، ستتقاطع مع أصوات الحرب الدائرة بحي لا معالم توضح منطقته في سورية، خصوصاً أن المتابع سيستمع إلى العديد من اللهجات السورية في هذا الحي، من النازح الإدلبي، الذي قدم دوره الفنان “محمد خير الجراح” إلى صهر العائلة الحلبي، أداه الفنان قاسم ملحو، ولن تعكر قذيفة هاون أو صوت مدفع وهدير طائرة حربية، صفو الحديث الدائر بين العجوز الأرمل الذي أدى دوره الفنان فايز قزق مع خياط الحارة “أبو جميل” قدم شخصيته الفنان جرجس جبارة، عن كيفية إقناع السيدة” بالزواج من “قزق” دور تؤديه بأناقة مختلفة المخضرمة “غادة بشور”.
لن تخلو أغلب المشاهد من أصوات الحرب القادمة من ناحية قريبة، دون أن يكون لها أي أثر يذكر على شخصيات العمل، باستثناء البنت المطلقة “أمل عرفة” التي تحاول أن تتقي شظايا قذيفة طائشة، بصينية من المعدن، لاسيما أن طاقم “الحقائب” حدث وتعرض فعلياً لسقوط قذيفة هاون في أحد لوكشينات التصوير، وتابع التصوير بعد توقف اضطراري ساعة واحدة وذلك لضبضبة الرعب.
يقدم “ضبوا الشناتي” حكاية أسرة سورية متوسطة الحال يختلف أبناؤها بشكل كوميدي على ما يحدث في سورية بين مؤيد مدافع عن كل ما تتبناه السلطات السورية من قرارات، قدم الدور الفنان “أيمن رضا” وأخ أصغر سناً، معارض يرى أن البلد آل إلى ما آل إليه بسبب أخطاء ارتكبتها الطبقة السياسية، قدم دوره الفنان الشاب “أيمن عبد السلام”، ثم تقرر هذه العائلة بعد الاتصالات الفيسبوكية التي أجراها الابن المحبب “سلام” أدى دوره الفنان المتميز “أحمد الأحمد”، السفر إلى دول اللجوء هرباً من الحرب.
لن يحظى هذا الاقتراح بموافقة “أم خليل” أدته الفنانة العريقة ضحى الدبس، حتى لو وافق أبو خليل رجل العائلة المتردد والبخيل نوعاً ما، دور يقدمه الضروري “بسام كوسا” بتكنيك عالي المزاج، كركتر اشتغل “كوسا” على حياكة تفاصيله الشكلية والنفسية بعناية بالغة كعادته، بعد أن حول الكلام المكتوب إلى شخصية ستبقى عالقة في أذهان من شاهدها طويلاً، إلا أن قرار السفر الذي توافق عليه الأم بعد أن تضمن أن كل أفراد أسرتها ذاهبون معها، لن يكتب له النجاح، رغم أن “الكنة” نادين تحسين بيك قامت مع العائلة بتوضيب الحقائب استعداداً للسفر.
تبدأ الأحداث المأساوية التي تعيق السفر بالتتالي تباعاً فخطف البنت الكبرى “أدت دورها الفنانة “رنا شميس” وزوجها، وطلب الخاطفون فدية مقدارها 3 ملايين ليرة سورية، المبلغ الذي تحصّله الأسرة بعد أن تقوم ببيع ممتلكاتها بما فيها الشخصية والعزيزة ذات القيمة العاطفية، لن يكون العائق الأول أو الأكثر تأثيراً، لتصير حلاوة الروح والخوف على الحياة هو العائق الوجودي الآن، فمن سيذهب من أفراد العائلة لإتمام عملية المبادلة مع الخاطفين؟ قرار يحاول ذكور العائلة التملص من تنفيذه بحجج متنوعة وجريئة في الطرح، تتناول بمهارة مخاوف كل من المؤيد الرجل المكتوب اسمه على لوائح العار، وما سيحل به إن وقع بين أيدي الخاطفين، والشاب المعارض الناشط الفيسبوكي الذي يخشى أن يكون حسابه مراقباً من الأجهزة الأمنية، نظراً للتعليقات الحامية التي يضعها على صفحته الزرقاء، وبالتالي فإن هاجس مروره على نقاط التفتيش “الحواجز” ينطوي على مخاطرة أن يقبض عليه.
يأتي الحل بالقيام بقرعة تحدد من هو صاحب الحظ السيئ في هذا السحب الوجودي جداً، إنها قصة حياة أو موت.
القرار الصائب في تمرير الأحداث الدرامية بشكل كوميدي، رغم وجود بعض المشاهد التراجيدية المؤلمة، أعطى لـ “ضبوا الشناتي”، زخماً أكثر بالمتابعة الجماهيرية وسط هذا الزحام الدرامي الرمضاني المربك فعلاً، باعتبار أن هذا الأسلوب نجح في التعاطي مع قضايا إنسانية وسياسية حساسة للغاية سيتفق عليها كل من المؤيد والمعارض والحيادي “إن بقي منهم أحد”، بالتالي لن تنقسم المشاهدة كما حدث ويحدث مع العديد من الأعمال ، التي قدمت وجهة نظر الطرفين، بشكل واقعي خال من الروح أحياناً أو مبالغ فيه إلى درجة التهريج كمسلسلات الأكشن والخيال العنفي حد البشاعة التي شاهدنا بعضها الموسم الفائت، المتفرج السوري بات جيداً، ولا تعنيه متابعتها أيضاً على الشاشة، بعد أن عاش أغلب وقائعها ويعيشها على الأرض.
تمام علي بركات