ثقافة

“معمودية الدم” يتطرق بأسلوب وثائقي إلى الفظاعات التي مارسها الإرهاب

تجتمع معالم دمشق القديمة وأماكنها الدينية المقدسة وأوابدها الأثرية مع مشاهد حيّة متفرقة مستمدة من مجريات الأزمة السورية وشهادات عدة أشخاص حللوا أحداث الأزمة وتبعاتها وانعكاساتها على الناس من وجهة نظرهم في فيلم “معمودية الدم” بإطار ديكو درامي. حيث ركز على أهم فارقة في الأزمة السورية وهي ظاهرة السيكوباتية أو “الذبح بالسكين وتقطيع الأوصال والتنكيل بالجثث”، التي مارسها الإرهابيون على الكبار والصغار في مناطق عدة دون رحمة متجاوزين فظاعة كل الجرائم الإنسانية المرتكبة سابقاً، وقدتخللت الفيلم مجموعة فواصل دمجت مؤثرات فنية من الموسيقا التصويرية واللوحات التشكيلية، واللافت أن المخرج استخدم أسراب الحمام المنتشرة في فناء المسجد الأموي وساحة المرجة وشوارع مدينة الياسمين كلغة بصرية أساسية أوحى من خلالها إلى المواطن السوري المحب للسلام، وقد ربط الفيلم بين الماضي المشرق لحضارة سورية وتاريخها، والحاضر الغابر لحالة النزاع والاقتتال والإرهاصات التي جاءت من الضخ الإعلامي المعادي والمؤامرة الخارجية الكبرى، ومحاولة تفكيك المجتمع السوري وتحطيم الذات السورية عبْرثلاثة أجزاء متتالية، يأتي الفيلم بتوقيع المخرج عبد الكريم جنيد العلي الذي كتب الفكرة الأساسية للنصّ، ثم تمّ التعاون مع الكاتب د. محمد الشاكر لكتابة السيناريو، والفيلم من إنتاج مؤسسة عمق للإعلام المقاوم والتي تعتمد على الأسلوب الوثائقي الذي يفرض حضوره بالدلائل والمشاهد الحقيقية.
البعث التقت المخرج جنيد العلي وتحدثت معه عن خصوصية الفيلم وفكرته فقال:
بدأنا العمل لإعداد ملف صحفي حول الأزمة السورية لكن حينما اكتملت الوثائق قررت مؤسسة عمق أن يتحول الملف إلى  فيلم وثائقي مؤلف من ثلاثة أجزاء:
أسطورة الأرجوان
الجزء الأول اختزل جمالية سورية من جميع الأوجه وصوّر أماكن ومعالم من دمشق القديمة وحضارتها ومناطقها الأثرية وصناعاتها التقليدية بما يتناسب مع السياق العام للصورة البصرية بالتوازي مع شهادات أساتذة ومؤرخين، جاء بنمط مستمد من روح الأساطير بعنوان “أسطورة الأرجوان” تطرق إلى  سورية التي أخرجت الإنسان البدائي من الكهف ليمارس الزراعة وتربية المواشي، وعلق على سورية موطن الأبجدية ومنطلق السفينة الأولى، فتحدث مثلاً د.محمود حمود عن تاريخ دمشق ود. محمد الزين عن العصر الإغريقي، كما شارك الفنان عبد الرحمن أبو القاسم بإطلالة مميزة تحدث فيها عن مشاهداته في مناطق كثيرة ابتداءً من رأس العين إلى جبل العرب إلى ريف دمشق، سرد بروح عفوية حكايات شائقة تتسرب مباشرة إلى المشاهد، إضافة إلى مداخلة النائبة ماريا سعادة التي تحدثت عن التعايش السلمي بين الأديان والتلاحم الاجتماعي والتسامح وكل القيم النبيلة التي تجمع أهل سورية.

العشرية المريرة
وتنتقل الكاميرا في الجزء الثاني إلى الأحداث التي عصفت بالوطن العربي خلال العقد الماضي ابتداء من حرب العراق عام 2003 إلى حرب لبنان 2006 مروراً بالجفاف الذي طال سورية عدة سنوات وصولاً إلى تصاعد أحداث الأزمة السورية والتدمير والتخريب الذي افتعله الإرهابيون وما نجم عنه من نزوح وهجرة وقتل، فيضيف: في هذا الجزء ركزنا على النقد الذاتي والموضوعي في الإخفاق في استيعاب حمى العولمة التي اجتاحت المنطقة ودور مواقع التواصل الإعلامي في تصعيد الأزمة وسياسة الإعلام المعادي، لنرى أنفسنا إزاء اختراقات إعلامية وتلفيقات نشرتها القنوات المعادية (الجزيرة والعربية) وللأسف صدقنا ذات يوم أنهما تدعمان المقاومة، فأثارتا الفتن والأكاذيب وتمكنتا من إقناع  بعض الناس الذين صدقوا الصور الكاذبة لكن الأغلبية كشفوا زيفهما الإعلامي.

الذبح بالسكين
الجزء الأخير وهو الأوسع أفرد فيه المخرج مساحة كبيرة للحراك السياسي الذي طال عدة دول في المنطقة ابتداءً من تونس إلى سورية وليبيا ومصر واليمن وسلطنة عمان والبحرين، وتطرق فيه إلى أكثر المجازر قسوةً وعنفاً وهي ظاهرة الذبح بالسكين بيد الإرهابيين التي انتشرت في سورية وقبلها في العراق، لكن المخرج تقصد ألا يدخل في الفيلم مشاهد عنيفة وعمل على تحليل الظاهرة من خلال شهادات المحللين فيتابع: أردتُ أن أبتعد عن الفجاجة والمباشرة والمشاهد المقززة والمخيفة في اللغة البصرية لأن الفيلم سيُشاهد من قبل شرائح عمرية مختلفة، واعتمدت على تحليل بنية الشخصية الإجرامية وتفنيد الأساليب التي تتبعها بالاستعانة بشهادات بعض الإعلاميين والباحثين السياسيين والاقتصاديين.

رمز السلام
ثم انتقلنا إلى التقنية الأبرز في الفيلم وهي أسراب الحمام التي أخذت حيزاً واضحاً من الصورة البصرية كرموز توحي بالسلام والحب، وسألته عن رؤيته لهذه الصورة فأجاب: عبّرتُ عن المواطن السوري الذي يحمل في قلبه الحب لكل العالم والذي عاش مراحل صعبة خيمت على المنطقة العربية برمتها ولم ينقذها غير الموقف الحكيم لسورية، فصورة الحمام كانت تقنية فنية ولغة بصرية تفتح أبواب الأمل للمتلقي المرهق من تبعات الأزمة من خبر مضاد من فعل وردة فعل، من انفجارات وقذائف حوّلته إلى إنسان نزق يبحث عن خبر يطمئنه.
كما تضمن الفيلم لمسات شاعرية تناوبت مابين أرجوانية اللون ونغمات القانون وُظّفت كفواصل بين المشاهد والمداخلات، فعرضت لوحات الفنانة تهامة مصطفى المستوحاة من روح الأساطير القديمة مع مقطوعات موسيقية شرقية على آلات القانون والعود والناي أعيد توزيعها باستثناء بعض الإيقاعات الغربية الصاخبة التي رافقت المشاهد العنيفة، وانتهى الفيلم بعودة الكاميرا إلى نقطة البداية إلى مجد سورية وأصالتها وحضارتها، وإلى أجمل ماقاله الشعراء فيها لاسيما الجواهري ومحمود درويش.
“معمودية الدم” فيلم متكامل مرر مقولات ورسائل بأن الأرض التي حظيت بالمجد التليد لاتستسلم أبداً وأن ما يحدث ما هو إلا سحابة صيف زائلة لامحالة.

ملدة شويكاني