ثقافة

تنهيدات الروح المسافرة في “تقاسيم على ناي مكسور”

صدرت مؤخراً للأديب أدهم مطر مجموعة شعرية بعنوان: ” تقاسيم على ناي مكسور” تعزف على أوتار الوجع، ونزيف من مداد الحزن وتنهيدات الروح المسافرة في سفينة أهرمها الترحال، وفقدت مرساتها كلّ عزائم الصبر والقوة. هي الحياة المعجونة بالهم والدمع والحنين والذكريات، هي نزيف الآلام وصراخ الصمت، وبقايا أيام يوثقها الشاعر بلغة من القهر والدم.. لغة ماتزال تبحث عن حلم.
الموت، الوحدة، القلق، الغيم، المطر، الآهات، الاحتراق، الانتحار، انصهار الروح، وكل كلمات النفس المعذبة المعجونة بمعزوفة ألم، صدى الروح المتعبة من الغياب، كلمات تصهر شاعرنا على ورق الذكريات بكل أوجاعها ونزفها، بدموعها، بغربتها، بمرارة حنينها..ففي أول فاصلة للحزن كان تقديم الأديب لتقاسيمه على الناي يقول:
سأقرأ على الكائنات /سفر ولادة الأشياء
وكيف تنهض بالهم، الحياة/وكيف تجهض بالأحلام السماء
سأكتب على شاهدة قلبي بيدي /”كان يسكب دموعه على الزنابق وعلى الحجر”
فصارت الأولى لأحلامه مشانق!/والثاني متربص بالعمر!
سوداوية مرّة.. سرمدية..كل لوحة هي أيقونة للحزن، وبلحن يغازل النفس المترفة ألماً واحتراقاً، يبحث الشاعر عن بعض روحه في تجارب الشعراء والأدباء من رياض الريس إلى غادة السمان ومحمود درويش.. كما يبحث عن بعض شبابه المتعب، وقد شهد عليه في بيت جده، فنجان القهوة ودالية العنب! في مناجاة ومحاكاة لماض محبب بكل عذاباته. ونقرأ في “اعترافات ناقصة”:
عندما يلمس الفنان الريشة/يرسم لوحة ذاته
وحين يسحر الشاعر القلم/يكتب قصيدة آهاته
وعندما يتقمصني يراعي/تنساب على الورقة البيضاء
نقطة من دم..
علمني محمود درويش متعة الرقص /على المشانق !!
ومضغ المستحيل/من الأقوال/وإدمان رائحة البرتقال/في فوهات البنادق
لكأن الشاعر عاشق لحزنه حتى النخاع يتغنى بانكسارات النفس ويتمها، ففي كل لوحة يأتي اللحن أشدّ بوحاً ونزفاً، فيغوص في أعماق الهاوية ليأتي صدى موسيقا نايه ألحاناً تحرق الغيم وقدراً أعمى وحياة، هي في نهايتها مجرد صور..
يقول في “تأملات لذاكرة من القرن العشرين”
قد تقول لي /أن بعد احتراق الغيم/ينهمر المطر/وأن الشجر يمتص كل ألوان الأرض/فيخضّر../وأن القدر/يد عمياء/تجعل حياتنا/مجرد صور…!!
فقير في فرحه، معدمه، ثري في مفرداته ولغته التي تهاطلت لحناً سرمدياً على النفس بأسلوب شفاف بسيط يدخل بلا استئذان إلى فضاءات النفس عازفاً على وتر الوجع، إذ يتفنن الشاعر في عزف الكلمة واستعراضها ،كما يتفنن في الاستعراض اللوني لمأساوية الصورة فيصّر على الرمادي، لون الكآبة واليأس، لون الفقد والفراق، في ترف لغوي يواكب سيرورة نفسه المرهقة تلك التي لم تفلح يوماً في بحثها عن ألوان الفرح..كأنها رماد منذ الأزل..
وفي معزوفة بعنوان “وصية” يقول: بحثت بين أنقاض عمري /عن نبضة فرح/أو قوس قزح/بحثت عن هوية/عن لحظة حرية/لكنني/حين زفّتني/محترقا /عرائس الشفق/كانوا هناك/كعشب بري/على قبري وعلى جبيني/تعويذة أرق!
ولم يكن الوطن غائباً عن تقاسيم نايه، الوطن الحاضر أبداً بكل أوجاعه، كان وهجاً لنفسه المتعبة حنيناً واشتياقاً وقلقاً، لنوارسه التي أتعبها السفر، حنين معتق يعبر الروح بكل نزفها، وفقير في غربته ينتظر مطر البشائر عساها تطفئ هذا الشوق المتأجج وهذا الخوف وتطمئن فقره السجين. وفي فاصلة للحنين وتحت عنوان”مخاض” نقرأ:
تحوم الغربان /فوق بساتين روحك..تحوم/وأنت مطرق/غارق في وجوم/ما الذي تنظر إليه ولا تراه؟؟/ماالذي يحدث الآن فوق الحياة؟/أية قوافل تعبر روحك/صحارى الحنين/أية بشائر تطمئن/فقرك..السجين.
وفي قطعة بعنوان “همسات سرية بأذن وطن “نقرأ
مللت من الموت كل يوم/ياوطني/ومللت احتراف الغرق/في بحر مدائنك/تعفنت آمالي ياوطني/وصدئت أحلامي /بقلبي
وفي خضم أمواج الألحان ..ثمة تقاسيم تعزف في ثنايا القصيدة، تعزف للمرأة الحاضرة الحاضرة، المرأة الأم والحبيبة، في معزوفات تتصاعد ألحانها على جدار الغربة، وذكريات تتقد وتشتعل في نفس الشاعر كلما مرت حمامة واتحدت في أيقونة مزركشة بزرقة سمائه، بوح الحب والشوق يصهر شاعرنا على شفاه عطشى، في معبد للحب، جديد، عنوانه نظرة وسنبلة هي رمز الخصوبة والعطاء.
نقرأ في “أقاويل عن الحب”
لاتسخري مني بقبلة/سأروي شفاهي العطشى بنظرة/سأبني معبداً للحب..سنبله..
وفي “اعترافات ناقصة” نقرأ: علمتني أمي /كيف أجترع..غصات اليتيم/ولا أنكسر/وكيف أرتجف..لفرط الحنين/وكيف أنفجر../حباً ودعة…. لأطفال العالم.. ويبقى الشاعر رغم عزفه المنفرد على أوتار نايه المكسور حبيس حزنه السرمدي، ومن أيقونات معزوفاته المكلومة، تطاردك ألوان متعبة لذاكرة منهارة وأخرى مفقودة، وتنهيدة قصيرة لموت قادم، صرخات صامتة، انتحار، مرثية لطائر أبيض، هالويين، حلم، مناجاة، ترانيم على وتر الهجرة، ثلاثية لشفيق، الهاوية، زفرة، من مفكرة إنسان مقهور…الخ.
تقع المجموعة الشعرية، وهي الثانية بعد “فوق خط الموت، تحت خط العشق”، في 390 صفحة من القطع المتوسط. صادرة عن دار النايا للطباعة والنشر.
عبير زرافة