ثقافة

التواصل الإشاري في اللغة الواصفة أنموذجاً “في حضرة الرصاص”

للغة الأشياء والأحداث مرحلة تصاعد وتواصل منفتح في القول الروائي للمرويّات ذات الايقونية الوصفية.. في روايتها “في حضرة الرصاص” تواصل أحلام غانم مشروع اشتغالها الوصفي من خلال القول الروائي ذي اللغة الإشارية المكثّفة، وفق تواصل مبرمج برؤى ونظم لغوية تجعلها قادرة على احتواء المواربة الوصفية للسرد.
هذه اللغة يقول عنها جورج بول: إنها تتألف من الدلائل والرموز، وتمثُل الأشياء، وتشير إلى العمليات التي يُراكب بها الذهن المفاهيم البسيطة للأشياء في شكل تصورات مركبة.
بهذا المعنى نقرأ رواية (في حضرة الرصاص) لمؤلفتها الأديبة أحلام غانم، حيث تجلت بوضوح دلالاتها التي حملها العنوان، ومنها أن الرصاصة ولدت على مستويين: الأول مجازي، اقتصار الشخصية لمعرفة أثر الكلمة في حياته، والتي هي الأقوى من كل نوع من أنواع الرصاص الذي يستخدمه الجندي في جبهة القتال، والثاني: واقعي مرمّز أيضاً، ويشير إلى المكبوت، بل المخبوء من المفاهيم الاجتماعية، والثقافية، بصيغة  نقلتها الانزياحات الكنائية، ولكن بطريقة السّرد الذي جاء مخالفاً هذه المرّة، منطلقاً من التداعيات الحرة، وكان الزمن السردي هو زمن الرواية عينها أيضاً، واستحضرت المؤلفة لهذا الغرض شخصيات لها حضورها في خزان ذاكرتها، ووصفت طباعها، وعلاقاتها مع البيئة، حيث سيطر القلق والتوتر الدرامي على طريقة حوارها دون أن  تفقد شرعيتها في أمن المكان، وخصوصيته الموحدة.
وكشف ذلك الحوار أن الشخصية الرئيسة هي البطلة التي قادت الحدث  وهي (جلنار)، وإلى جانبها شخصيات مساعدة، حيث ظهر أحمد كضابط بحري وشاب حيوي، لكن /جنان/ لم تعترف له بهذه الصفة، بل اعتبرته شيطاناً مخيفاً، ومات قتلاً في نهاية الأمر.
و”نجوى” الشابة الشقراء التي سرقت حياة سبعة أفراد من عائلة واحدة حطمتها بزواجها من جلال المدير المالي، كونها كانت تعمل لديه بوظيفة (سكرتيرة)، وأن زوجته حياة هي التي أمنت لها هذا العمل، ورغم أن /نجوى/ كانت تحب العزلة أول حياتها، غير أنها تحولت  إلى امرأة تعيش على غريزتها القاتلة بسلوك مختلف.
وفي الحوار الهادئ بين جلال وزوجته حياة  يقول: “إن القلب يتسع لامرأتين”، أمّا حسام الأستاذ الجامعي المثقف الذي طلبت زوجته (سلام) الطلاق منه بسبب ضعف ذكوريته بسبب مرض وراثي في العائلة، فقد شارك في السفر على متن سفينة الحرية إلى غزة  لكسر حالة الحصار التي فرضتها إسرائيل، وتنتهي به قضاياه إلى السجن السياسي بسبب تقرير فبركه أحد أصدقائه، ومما لا شك فيه أن عنوان الرواية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدة إشارات أسلوبية كشفت أبعادها تصرفات تلك الشخصيات، كلاً حسب الدور الذي أوكل إليه من قبل الراوية أحلام، وهنا يمكن أن نقول: إنَّ هذا التوتُّر بين الزمانين القديم والجديد شبيه بالتوتر بين الأرض والعالم، إنه لعبة الإخفاء والإظهار.
لقد نضحت الرواية بالكثير من الإشارات التي تجعلها وحدة إشاريّة تسير ضمن نسق تشفيري تصاعدي، يصف الناس والمكان والأحداث بطريقة إيمائيّة قابلة لِتُكِرَّ التواصل والانعكاس في الذوات البشرية والكتابية، واستطاعت مع هذه التداعيات القفز باتجاه تنمية الإحساس بالمسؤولية عند أبناء جيلها، منبهةً إلى دور الكلمة (الرّصاصة) التي تستدعي العلاقة بها حماية الثقافة، والأخلاق، ومحبة الوطن، ورمت بأوراقها الرومانسية في نسيج لغوي على خلفية تبادلت فيها عمليتي الظهور والاختباء وراء الوصول إلى الحقيقة، وهي الفكرة الأولى والأخيرة خلف تداعياتها.
وكشفت النجوى التي تعيشها (جلنار)، كأنني لمحت العمق في كل شيء إلى درجة السخونة لكل أشيائها، أن نهايتها قد تكون بطلقة (ص- 140 تقول: (مسدس)، “إن تلك الحياة التي تعلون من شأنها كنت سأنهيها بطلقة مسدس”.
ويمضي السّرد في خلق حالة من التضاد بين عوالم مختلفة فكرياً، وثقافياً وأيديولوجياً، وهي التي عانت من وحدتها وغربة والديها، وضيق المكان الذي تود أن يوصلها فيه التطور الحياتي إلى الرقدة الهادئة والمطمئنة، فكانت طرطوس وابنتها (المنشية) كمقهى شعبي تسعفها الجلسات فيه مع أصدقائها، وتطلع إلى (الصلنفة)  كمنتجع صيفي يثير المشاعر ويحرض على تعدد الصنع والرؤى، وإلى جوار هذه الأمكنة كانت العالمة البيولوجية (رحاب طه) التي تعيش في بغداد، والتي حولها الاحتلال الأمريكي إلى ربة منزل أو سيدة المصادفات المأساوية.
إن الأشكال البشرية التائهة من ذوي العقول المتناقضة هم من نقلوا الإرهاب إلى وطنها سورية، وتعرفنا من خلالهم على هذا الموت المجاني المركب في أزمتنا، وكانت دمشق الياسمين حاضرة في مثلث المكان، واستعادت فيه محطات (بيوغرافية) ذات وهج خاص ترك أثراً في عالمها الآخر الذي تريد أن تؤسس فيه ثورة على هذه الفوضى، ولكن بطريقة (كارل ماركس) ص- 9-91 الذي قال يوماً: “الثورات قاطرات التاريخ”، كما أنها جعلت من سنديان دمشق أيضاً رمزاً للتجذر في أرض الوطن وعلقته على نوافذ مشرعة  في المدون التاريخي لدمشق منذ زمن حمورابي إلى يومنا هذا.
وفي هذا الأفق عينه، نجد في لغتها الشعرية حقيقة اللغة نفسها، وقد استطاعت الأديبة أن تصوغ من تمظهر سردياتها بعض المفارقات الاجتماعية بلغة رشيقة التقطت معها التفاصيل، وبالتالي ظهرت أكثر تواصلاً مع الحقيقة كقولها: ص- 23: “إذا كان المتهم أخرس، والقاضي أصم، والشاهد أعمى، فما الفائدة من فصاحة رجل القانون، أو بلاغة المعنى”، وفي ضوء المقاطع السَّردية التي سطرت فيها هواجسها بحس تشكيلي ذاتي يشبه حياة راهبة ترفض الدخول إلى صالونات التجميل، حاولت القبض على الظواهر الخفية من مقدمة الرواية ونهايتها، حيث تقول في الصفحة 98: “الرصاصة التي تقتلك لن تسمع صوتها”.
إن رسم العلاقات الاجتماعية وما يظهر منها في لغة التواصل تتمّم رحلة السرد بشكليها الظاهري والباطني، حيث السرد المبطّن يخدم الغايات الدفينة التي تبوح بها الرواية تعبيراً عن روحية القص، وعشق الكلمة لماض فطري كان التعبير الأوحد، ونقل إلينا عبر الشخصية المركزية (جلنار) الراوية المتخفية وراء جملة الأبطال، وقد جُعل منها أن تظل علامة تفي بالأسرار المتوارية في حضرة الرصاص – ردود أفعالها تجاه الرصاص- الحقيقة بوصفها فجوة الوجود المضاءة تحدث حين تُسرد فناً، لهذا  أنهت الرواية بهذا القول صفحة 327: “لم تختف كلمة رصاصة مع ملامح ضُمرتْ بالزرقة كي يدخل حلمنا مملكة الأزل”، وتبقى شموع القلب في امتصاص وهج المعنى الغامض الذي  يأخذ شكل العصا في وجه كل من عصا قيوم الحروف كي يبقى القلب بلا مفاتيح  في حضرة الرصاص.
ومن أجل ذلك، يبدو حقيقياً جداً أنَّه كما تكون عين الخفَّاش إزاء الضوء، كذلك عين العقل إزاء الأشياء الظاهرة في الطبيعة، حيثُ يتم فهم الموجود في أفق حقيقة الوجود من خلال كشف الموجود أمام أديبة تراوغ الموت، تضلّله، وتمحوه، وتدفع به إلى الهوامش محافظة على قوة الحياة “في حضرة الرصاص”.
محي الدين محمد