ثقافة

“خارج خط المطر” لمفيد بريدي ما بعد حدود التوقع ..

في مجموعته الشعرية “خارج خط المطر” والتي استقى عنوانها من بلدته التي ولد فيها ويحمل لها كل المحبة والولاء، يدور الشاعر “مفيد بريدي” حول عدة محاور أكثر تكثيفاً محاولاً جعل القارئ يستقي من روح الطبيعة، لعله يتعلم الحب بشكل أكثر إدهاشاً بعيداً عن الهشاشة والأحلام غير القابلة للتحقيق، فلا يكاد ينتهي من رصد حلم إلا ويبدأ بآخر جديد يصر على تحقيقه ليحقق ذاته..
كما يبحث الكاتب بين صفحات مجموعته عن وطن يحقق آماله ويتوحد فيه، إذ تبدأ مجموعته بثلاث قصائد تَوّجَتْ مفردة وطن عناوينها وهذا إن دل فيدل على وجع الشاعر على وطنه الذي يعاني الأزمات، ومازال واقفاً يأبى الانكسار فيقول في قصيدته “وطني الحلم” (أبحث دوماً عن وطن يصبح وطني، وطن فيه الحلم حقيقة..أعرفه أنا.. أعشقه أنا). ومن هنا يبدو أن “بريدي” تعمّد تناول مفردات موجعة تخلد في الذاكرة وتؤرقها، لتقتصر عليها عناوين أغلب القصائد “المجزرة، تعدد ذكر الرحيل، نداء الغربان، لصديقي المسجى، نشيد بارد، لقاء الموت، حزن متوهج، موت شاعر) فيما تخللها بعض الأمل موزعاً كوريقات ياسمين تود لو لم تزج بين كل هذا الألم إذ عنون بعض قصائده بها: (أنا..أنت، تحليق الروح، برق العيون، زمن الدف).
كما تبرز حالة التشظي في صفحات المجموعة فيتردد في معظم صفحاتها كلمات الرحيل والبقايا حيث يقول في قصيدته: (لا أبتغي أبداً سوى ألق الرحيل إلى الرحيل)، وفي قصيدة تليها: (هنا دفنت حصيلة عمري)، فيما تخوم على النهايات الكثير من الضبابية ذات الطابع مخملي الحزن قبل الفرح، حيث ينهيها غالباً بسؤال غائم يفتح الأفق نحو تطلع جديد أكثر توغلاً.. كقوله: (لماذا التلاشي يحيط بعمري، لماذا هو قوتي ومائي، لماذا ماكان.. كان). لكن من الملفت أن الشاعر هنا يملك نظرة مختلفة عن السائد والمتوقع منطلقاً من نظرته السوداوية نحو كل شيء، فيقول مخاطباً دمشق مدينة الياسمين بعد أن جردها من حنو حاراتها ودفء شوارعها وأهلها: أيتها المدينة المتدلية من أعشاش الغربان، افتحي نوافذك، املأي صدري المترامي الأطراف، بهباب عوادمك التي تمنحني الموت البطيء، ها جوفي يستقبل بقايا تلوثك والقليل من فاكهتك اليانعة، يامدينة بلا ملامح، إنك تتقنين فن القتل المزخرف، فاتركيني في اندهاشي الأبدي، أمقتك حتى النهاية).
إذاً ينطلق الشاعر من النقاط الأكثر وجعاً ويتوسع بدوائره حتى التلاشي فهذه السوداوية لم تكن تجاه دمشق فقط بل غالبت أكثر القصائد في عناوينها ونهاياتها حتى بات الحزن متوهجاً، وتناسب طرداً مع إنهائه للقصائد في الربع الأخير من المجموعة إذ ينتقل من حزن نحو آخر يبشر بولادة أكثر إشراقاً حيث يعبر عن المكانة العظمى للشهيد بقوله: (أصبح صوتي جسداً، شهدت بألا وطناً.. أغلى من وطني، في المنتصف تماماً، صار الجسد بحجم الوطن، سقط الجسد، انتفض من الأعماق وطن وصار بحجم الجسد).      وبالرغم من سيطرة الوجع المخملي على أسلوب الشاعر إلا أنه برع في اختيار التراكيب الشعرية، واختيار اللحظات المشهدية، وكأنه يعكس الواقع عبر أسلوب تجريدي جديد، وفق الكثير من التحولات الدرامية التي أضاءت النصوص بدقة متتابعة وكأنه ينقلها بعدسة تصويرية، فقصيدة النثر تخرج عن إطار الكلاسيكية المعروفة وتمكنه من الابتعاد عن القافية ما جعل فضاء الشعر شاسعاً أمامه ليصول ويجول بقصائده كما تشتهي الكلمات، فيما أخالف الشاعر باقتصاره على بعض المفردات بالرغم من ثراء قاموسه اللغوي، إذ كان بإمكانه تجنب التكرار الذي أثقل بعض القصائد وجعل تأويلها ممكناً ومباشراً من اللحظة الأولى.
ديمه داوودي