ثقافة

موت الناقد.. أم جدوى النقد؟!

أحمد علي هلال
جرياً على «عادة»، وربما محاكاة لمنهج، أو شغف بالكلام فحسب، وربما… يطرح سوق التداول الإبداعي، وبجهرٍ مرة، وأخرى بهمسٍ خجول حدّ الصمت، مفاده: «موت الناقد»، اتصالاً أو انفصالاً عن أطروحات سالفة تأسيسية الطابع، من مثل «موت المؤلف»، وموت «النص»، وكأننا بأطروحة «موت الناقد»، تجهرُ –بهاجس إضافي، تحت ملاءة ظنونها، وعلى قيد المخاتلة، هو ميلاد القارئ، كما هجس بذلك يوماً، وشغل كثيراً، جمهور النقاد، والمبدعين على حدّ سواء، «رولاند بارت»، أحد أهم أساطين النقد في فرنسا، فالعودة لزمن القارئ، هي أشبه بمن يرمي صنارته بعد أن يصطاد، إذ أن أطيافاً من المبدعين، قد رأوا بالناقد ضيفاً ثقيلاً، ولكثافة «عدّته المعرفية»، ارتطمت بالنصوص مباضع وآلاتٍ عجيبة غريبة، ربما بحثت عن الداء في غير موضعه، وسواها من نثر «سكراً» على نصوص دخلت «الكوما»، فلا عزاء للنقاد، إن تواطأت نصوص على أن تتوارى، خشية إيقاعها بالضربة الفنية، أو التمديد لمبدعيها، وإن فشلوا ثمة ركلات ترجيحّية، تحسم الأمر، فيبطلُ التأهيل لنادي الإبداع! هل يمكن تبسيطُ المسألة هكذا؟ بالطبع، لا يمكن اختزال مسائل المعرفة حتى لو استدخل لها سياق تهكّمي، لأن المسألة الإبداعية برمّتها، هي من تعني النقد والإبداع، لطالما كان النقد، هو من جنس الإبداع، وليس طارئاً عليه، أو متعالٍ عليه، ومن هنا، إذا كانت المعادلة تقتضي أن «موت» الناقد، هو بداية لميلاد القارئ، فالناقد هو القارئ بالذات، وإن تغيّرت المواضعات، وخطاب الناقد، هو خطاب معرفي بالضرورة، لكنه خطاب إبداعي، يقولون في الأنساق الكتابية، وفي ما يشبه الإجماع: «نصّ على نصّ»، أو تشكيل ما بين الإبداع والنقد، بمعنى، هل نعزو التشكيل إلى مجرد ترف؟! أم أن له أهدافاً جمالية، وأولها العودة إلى مفهوم العمارة في النقد، شأنه في ذلك، شأن الرواية والشعر، وسوى ذلك، فأحجية «موت الناقد»، لا تحيلنا بالضرورة إلى موت النقد، كاختبار نهائي لموت المرجعيات، أو تبدّل مواضعاتها، ما لم تعزّز في المنظومة الثقافية، منطق التجاوز، أو التكامل الخلاق الذي يرتقي بالنقد، ممارسة ووظيفة، تبتعد به عن سجالات عقيمة باتت تفسد اليوم أشكال التلقي، وتصنع متلقٍ مطمئن لأشكال لغوية لا علاقة لها بالمعرفة، تغيب معها معيارية في النقد أو الإبداع، هل تدّلنا بعض ممارسات النقد في غير مكانٍ في مراكز ثقافية، على أشكال ذلك التلقي، غير المنتج؟!
هل من شأن، من يرون «بموت الناقد» أن يلقوا أسئلة شاقة على مؤسسة النقد، وعلى مرجعيات الناقد، وعلى أشكال إنتاجية للمعرفة، وعلى ما يعنيه فكر نقدي من متلازمة جدلية.
ببساطة: لا شيء يعني «الموت» في النظريات والأفكار، والأطروحات، سواء كان مهادها فلسفياً، أولا، إذا لم تكن صيرورة، تدهشنا، لتزيح ما استقّر، وأصبح جامداً، وتتهيأ، لما هو جديد، ولتصبح «تقاليدنا» النقدية، في استقبال النصوص الإبداعية: رؤية في بناء، وليس رغبة في هدم، وإن شئت أن تهدم، فحتى الهدم لا معنى له إن لم يكن خلقاً جديداً وتجاوزاً باذخاً.
ليس الترنم بموت الناقد، أو موت النقد، ما يشفي غليل معرفة ضليلة، ربما يزداد التباس المعرفة حينما ندرك أن الناقد لم يهبط بالمظلة على أرض الإبداع، وأن المبدع ليس «نبتاً شيطانياً»، ماذا يحصل إن ظل أحدنا يستمرئ ما لذ من مفارقات الكلام والمعرفة، ليشي بأن مفهوم الموت قد أصبح قدر الكتابة، وقدر الإبداع، دون أن يكون ذلك المفهوم تورية لانبعاث أشكال جديدة في النقد والإبداع، حيث لا تحكم العلاقة -من جديد- كل ما أنتجه الغرب في سياق ثقافي مختلف لا يؤول بالضرورة بنتائجه إلى سياقنا المختلف بدوره أيضاً، وليس بوسعنا القول هنا أنه بموت الناقد يموت المبدع، والعكس صحيح، لكن المسألة أبعد من هكذا تبسيط لا تحتاجه السذاجة حتى!.
المسألة هي أن في تصدير أفعال الموت دونما أفق ثقافي، هو حاكماً ومعيارياً سيجعل من الموت ذاته، متخيلاً لمن يُبدعه، وليس لمن يؤول إليه.