ثقافة

فضل اشمندر: هلا كففت عن تشويه الشعر العربي!

لست أدعي بأنني من الأشخاص الذين لم يستمعوا لأغاني الفنان “فضل عبد الرحمن شاكر اشمندر”، المعروف بـ “فضل شاكر”، خصوصاً وأنه من الأصوات التي أوجدت لنفسها مكانة خاصة، كما أن طبيعة أغانيه فيها حس طربي، وفني مغاير تماماً لما هو سائد في الوسط الغنائي العربي في العقدين المنصرمين، وللحقيقة أيضاً فإنني لم أكن لأستمع إليه إلا من خلال الصدفة، بمعنى أنني لم أقتن له ألبوماً، أو ما شابه كما أفعل عادة عندما يأسرني صوت ما، أو موسيقا معينة، ولكن لم يحدث أن صار وفكرت بشخصية هذا الفنان منذ أن بدأت عملية تحوله المثيرة للريبة فعلاً، المترافقة مع بدء الأزمة في سورية، من مطرب كان يلقب بـ “مطرب العشاق” في الأوساط الفنية، وبين الجماهير التي أحبت صوته، وما يقدمه من أغاني الحب الدافئة، بصوت أعاد للكثير من محبيه صورة “عبد الحليم حافظ”، إلى إرهابي متطرف، هارب من وجه العدالة بتهمة القتل، وما رافق عملية التحول هذه من التصريحات، والتهديد، والوعيد للشعب السوري، أقله لمن هم في صف وطنهم.
منذ مدة قريبة كنت عائداً من السفر، والمذياع يبث أغنية لـ “اشمندر”، الشعور الذي انتابني، وأنا أستمع لتلك الأغنية العاطفية التي تميل نحو الطرب الخفيف: (النوع الوحيد من الأغاني الذي أستطيع احتماله على طريق السفر، لأنه لا يأسرني، ويأخذني إلى عوالم أخرى، كما تفعل عادة أغاني فيروز، أو أم كلثوم، أو الشيخ إمام، وموسيقا أنور إبراهيم مثلاً، كما أنه لا يجعلني بحالة انزعاج من تلك النوعية من الأغاني التي لا رأس فيها ولا قدم، ولا أستطيع أن أميز بين صوت صاحبها، وصوت الكورال المرافق له، أو صوت ضجيج الطريق الذي يصلني من بعيد)، هو الإحساس الذي ينتاب أحدنا عندما يستأنس بشيء لطيف على وحشة طريق السفر، وخصوصاً في هذه الفترة التي صار فيها طريق السفر بين المحافظات السورية احتمال مصيدة للموت، إلا أن صوراً عديدة بدأت بالورود إلى ذاكرتي لهذا المغني  “45 سنة” مع ما يصلني من أغنيته، وهي تمر بهدوء في خاطري لمسيرته الفنية، صور المهرجانات التي كثيراً ما غنى فوق مسارحها أجمل أغاني الطرب الثقيل، كأغاني الراحلة وردة، وأم كلثوم، وعبد الحليم، حتى مرت صورة غريبة سرعان ما استقرت أمامي كلوحة مربكة الضوء، والظلال، صورته وهو يقف أمام جثتين من أفراد الجيش اللبناني، يركل تلك الجثث الفاقدة لروحها، يبصق عليها، وينعتها بـ “الخنازير والكلاب”، وبنعوت طائفية مقيتة، بطريقة مثيرة للدهشة و”الاشمئناظ”: (اشتقاق لغوي يدمج بين كلمتي، اشمئزاز وإحباط)، والحماسة القاتلة مستعرة بملامحه، وصوته المتهدج وهو يستنكر أنه وجماعته لم يستطيعوا أن يغنموا إلا هاتين الجثتين!.
شيء ما اعتمل في مخيلتي، وهي تجهد لفصل تلك الصورة عن باقي الصور، “ربما لأنني أحببت الشعور الذي أصابني، وأنا أستمع للأغنية: “حبيبي أن بحنلك، متل شمعة على غيابك أنا عم دوب، بسبب الذاكرة التي كنت مرميا على أرصفتها وقتها”، بمقاماتها الموسيقية المتنوعة: نهاوند، رصد، بيات، لم أستطع أن أفهم هذا الارتباك الذي خلّفته الصورتان المعلّقتان ببالي، والمتناقضتان بغرابة للشخص ذاته، خصوصاً وأنه شكّل بتحوله المفاجئ ظاهرة أو سابقة لم تكن موجودة من قبل عند أهل الفن والطرب المعروفين بحسهم المرهف، كما هو سائد عنهم.
كنا مثلاً نسمع عن مطربة تحجبت بعد الأربعين، أو ممثلة اختارت أن تعتكف في بيتها، متفرغة للعبادة، هاجرة عالم التمثيل بلا رجعة، وبرجعة أحياناً، إنما بـ “اللوك” الجديد، وما يحمله من إيحاءات لها ما لها من دلالات معينة تتناسب والخيارات الضيقة لهذا التوجه الخاص في الفن، كما أننا رأينا العديد من الفنانين السوريين الذين انتهجوا نهجاً مغايراً لمسيرة حياتهم الشخصية بعد بدء الأحداث في سورية، خصوصاً أولئك الذين كانوا يتمتعون بشهرة شعبية عالية أدخلتهم البرلمان السوري، وكانت مواقفهم السياسية قبل بدء الأحداث في سورية لا تنبئ بالحالة التي سيصبحون عليها، بعد أن أمسوا على وطن لعبوا في ربوعه دور حراس البوابات في العديد من المجالات الفنية، والثقافية، إلا أن النهج الذي مضى بدهاليزه “شاكر”، جاء صادماً فعلاً للكثير من أصدقائه الفنانين، وجمهوره عموماً، لجهة تطرفه الفني، والشخصي غير المسبوق، من شخص وسيم يرتدي أغلى الماركات العالمية، وهو يقدم أغانيه الرومانسية لجمهوره، إلى شخص يطلق لحية كئيبة، وملامح وجهه آخذة بالضمور، وهو يغني الأناشيد الدينية التي يعلن فيها توبته إلى طريق الإيمان بعد أن وسم مسيرته الفنية بكونها الكفر بعينه، وأنه كان مضطراً واهتدى، ويغني أيضاً بعضاً من قصائد الشعر الجاهلي التي يغير فيها بعض كلماتها، ويضيف إليها أيضاً أبياتاً تناسب توجهه الجديد، كقصيدة “تأهّب مثل أهبة ذي كفاح”، وهي للشاعر الجاهلي جساس بن مرة.
اللافت أن القصيدة هي نفسها التي نشرها منذ عشرات السنين أسامة بن لادن، وحملت العنوان نفسه، مع تغيير بعض مضامينها، في هذه القصيدة عدّل شاكر بعض المفردات، وأضاف إليها أبياتاً يشير فيها إلى حاله، ويدافع عن حمله السلاح، وهنا بالضبط بالنسبة لي المصيبة، فأنا لست بصدد إجراء تحليل لسيكولوجية “شاكر، أو اشمندر”، ولا تعنيني خياراته بحال من الأحوال، ولكن ليبدع هذا الموهوب، ومن لف لفه أغانيهم الخاصة، وليتركوا لنا هذا الإرث الشعري الذي نعتز به، ونحبه دون تشويه وتحريف، ليجد مؤلفاً خاصاً به، وبتوجهه الجديد، وليقدمها للشركات التي تبنته فنياً لتنتجها له، في حال رفض وسيرفض أن يدفع من جيبه لعدة أسباب، قد يكون أحدها أن المال الذي يملكه «هو مال حرام»، كونه جاء نتيجة لعمل حرام، وهو لا يريد أن يصرف على إيمانه الفني من مال حرام “قلت قد”.
الفنان والمجرم الفار من وجه العدالة بجريمة القتل، غير مهم: هلا رفعت يدك عن قصائدنا الشعرية، وإرثنا الذي نحب؟!.
لا نريد أن يرسّخ تشويهك لهذه القصائد في وعي ووجدان من قد يأتي من الأجيال القادمة، ويقول عن المسخ اللفظي الذي أوجدته بعد أن شوهت قصيدة جميلة: هل هذا هو الشعر العربي الذي تتغنون به؟!.. لهذا السبب لا لغيره، لو سمحت دع ما ليس لك، دع ما هو شيء خلّاق يحبه الناس للناس فقط!.

تمام علي بركات