ثقافة

“خارج السيطرة”.. سامر عمران وطلابه يعرضون الحياة وينافسون التلفاز والسينما

“أعطي أبو الفنون حقه.. سينافس وبقوة التلفاز والسينما”، طرح ماكر وواضح ومقصود، اشتغل عليه المخرج المسرحي المحنك سامر عمران في العرض المسرحي “خارج السيطرة” الذي أعدّه وأخرجه عن نص للكاتب الشاب “وائل قدور”.
مشروع تخرج دفعة السنة الرابعة من طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية- قسم التمثيل، جاء هذه المرة ليبث رسالة قوية تقول: يستطيع المسرح أن يقدم للجمهور عملاً مسرحياً، يختصر فيه زمن الثلاثين حلقة، من عدة أعمال تلفزيونية، إلى ساعتين من المشاهدة الحية والواقعية، لكن مع قيمة مضافة، وهي التقاء الناس ببعضهم، حضورهم إلى الخشبة، وليس ذهاب الفرجة إلى كل ناظر منهم فرادى، تستطيع خشبة المسرح إذا عوملت بحرفية وخبرة ومهنية، أن تعيد جمهور المسرح المتلفز.النص المسرحي الذي اشتغل عليه عمران هذه المرة ليحيك منه فرجة ديناميكية وعملية، قدمها الطلاب الخريجون ببراعة في مسرح فواز الساجر “المسرح الدائري”، جاء مغايراً تماماً وعلى عدة مستويات، لعروض مشاريع التخرج السابقة، في الشكل، والمضمون، والتقنية الفنية التي صنعت فرجتها أيضاً، فالنص المسرحي كتبه قدور بعد انضمامه إلى ورشة كتابة سيناريو مسرحي لا تعترف بالقوالب الجاهزة للأعمال المسرحية، لقناعتها بمبدأ تشتغل في مساحاته يقول: ظروف أي عرض مسرحي الآن هي عرضة للتغير والتبدل، فإذا لم يستطع النص المسرحي أن يقدم اليوم لا البارحة، بلغة اليوم الطازجة والساخنة، بمهملها قبل جل خطوبها، بإيقاعها الحياتي المتبدل مزاجه ما بين بطيء خانق للأرواح، وهرم متسارع للجسد، وإذا لم يستطع العرض المسرحي أن يحقق معادلة أو قناعة مضمونها، هذا الفن، وما نقدمه فيه، هو لجمهور اليوم، بمختلف شرائحه، بثقافته ووعيه، بتفاوت هذا الوعي المنطقي، وتباين ردود الأفعال تبعاً للظرف لا للخيار، لأن ترف الاختيار اليوم بات باهظاً جداً، وإذا لم نحقق ما سبق وروده، فوق الخشبة، فلا معنى لما نقدمه، بمعنى أن الفعل الحياتي الدائر على الخشبة، هو فعل تكاملي وتشاركي يتقاطع في العديد من تفاصيله مع الفعل الحياتي لرواد المسرح، وهذا يفسر سبب استمرار جماهيرية “كاسك يا وطن” مثلاً بالتألق نفسه حتى اللحظة، وبالمقابل شاهدنا الكثير من العروض التي لم تحظ بهذا الشرف، لم يعلق منها في الذاكرة إلا ما ندر.
هذا ما اختبر فيه “عمران” طلابه في عرض امتد على ساعتين من الزمن، وهذا ما طلبه منهم، أن انقلوا حيواتكم في الخارج إلى هنا، قدموا نماذج راهنة، طازجة، ألمها ووجعها وفرحها معلوم وواضح، له أسبابه وأحكامه، النص هنا مقدس، لا أريد أي تلاعب طائش بإيحاءاته وإسقاطاته، قولوا ما تريدون، كيفما تريدون، وبأية وسيلة تعبير أجدها وتجدونها مناسبة وفعالة.
لم يأت “خارج السيطرة” بالشكل المعروف، أو المتعارف عليه عموماً، إن كان بالإيقاع، أو بالزمن، أو بالتقنية الكلاسيكية بغض النظر عن كيفية السرد، فالزمن هنا ليس إلا موظفاً لنجاح المشهد، لاختصاره بحيوية الحوار، ورشاقة جمله البسيطة، والواضحة، حتى بالمفردات النابية التي وظفت في العرض بطريقة حقيقية ومدروسة، واللوحة التي تتوضح معالمها تباعاً فوق أرضية المسرح الدائري المنتقى بعناية هذه المرة لتقديم العرض، هي بالحقيقة، بازل متنوع، اشتغل الخريجون على تجميعه وفق تقنية فنية تلفزيونية بحتة، ستحول الفضاء المسرحي إلى استوديو مسرحي، يقطع المشاهد ويرتبها حسب آلية سردية تعتمد على تكشف الأحداث بشكل متسلسل وتجميعي لمجموع المشاهد المنفصلة التي حكت الحكاية بصياغة جديدة مسرحياً، فـ “عزيز -كنان حميدان”، الشاب الريفي القادم إلى المدينة ليبحث عن أخته “عليا- ولاء العزام”، ليقتلها بعد أن تركت البيت وتزوجت برجل من طائفة دينية أخرى، ثم لاذا بالعاصمة الصاخبة والمكتظة، باعتبار أن العاصمة ستخبئهما بزحامها وامتداد الكتل الاسمنتية فيها، سيستمع بغضب لسائق السرفيس “أبي هيثم-ريمي سرميني”، وهو يشرح له عن نساء كثيرات يصعدن إلى حافلته محتشمات، وينتهي بهن المطاف في حضن أبي هيثم.. ينتهي المشهد، يعدل الطلاب الديكور البسيط المكوّن من مجموعة من قطع الأثاث التي تصلح لأن تكون حافلة، وغرفة، بهو انتظار في مشفى، ولم يفت عمران أن يحصر أحداث عمله بين بابين من القضبان الحديدية المتقاطعة، بترميز إلى ما يحكم تفاصيل حياتنا اليومية، وما يحيط بها.
ستتوالى الأحداث بشكلها المشهدي الذي له بداية ونهاية محددة، وسنتعرف إلى قصة ثلاث نساء سوريات يعشن تحت وطأة ظروف وقيود اجتماعية، تأبى إلا أن تكرّس الهيمنة الذكورية على تفاصيل حياتهن، إن كان بالحب أو بالدراسة، وبالزواج، أو بطبيعة المصير الذي قد يؤول إليه مصير العديد من النساء عندما تضطرب طفولتهن ومراهقتهن، كالاشتغال في بيوت الدعارة مثلاً.
أداء الطلاب جاء كما ينبغي لهذا النوع من الفرجة المسرحية، الالتزام بالنص باعتباره هو من سيقود الحركة على الخشبة، خصوصاً وأن الديكور مع الاستخدام الذكي للمكان المسرحي دفع الطلاب باتجاه تصعيد العامل النفسي، لتجيء ترجمته إلى كلمات “منوتة” حسب الحالة النفسية، مترافقة وموسيقا بسيطة ومتقطعة، بحيث لا تصادر أي إيحاء يقدمه الطلاب بأصواتهم كما أشرت، وهنا كان جلياً الأثر العملاني لمخرج «المهاجران» في خيارات طلابه الفنية، فالفرجة المسرحية هذه المرة هي للمنافسة، للعمل على إعلاء قيم المسرح الفنية، والاجتماعية، والثقافية.
“خارج السيطرة” من العروض المسرحية الناجحة التي ستعيد الاعتبار للنص المحلي براهنيته، باعتباره، أي النص المحلي، هو الأقدر على نبش المسكوت عنه، وتقييمه، ثم محاولة طرح الحل، هذا ما نحتاجه حقيقة في مسرحنا السوري، اشتغالات على الراهن المحلي بأنواعه، وليس إطلاق هاملت، وعطيل، والمغنية الصلعاء ووو، بما هم عليه فوق خشبات مسارحنا.
تمام علي بركات