ثقافة

“شبلي شميل” فيلسوف تحديث الفكر العربي

مفكر وطبيب ومصلح اجتماعي لبناني من طلائع النهضة العربية وأعلام حركة التنوير المعاصرة ورواد الاتجاه الماركسي العلماني في الفكر العربي الحديث، وأحد المشاهير في رسم وتشكيل المشهد الفكري والثقافي في النهضة العربية.
ينحدر شبلي شميل- الذي ولد سنة 1850- من بيت اشتهر بالعلم والأدب ودراسة القانون، تخرج في الكلية البروتستانتية في بيروت ثم توجه إلى باريس لدراسة الطب ثم استقر في مصر. تعمق في دراسة الأدب العربي وبعض الثقافة الإسلامية وتصفح القرآن الكريم ليستقيم لسانه ويرتقي أسلوبه، وكثيراً ما تحدث مع أخيه أمين عن سر تخلف الثقافة العربية وتراجع المسلمين رغم عدم وجود ما يحول -في القرآن- بين العقل والبحث الحر. وقد التحق شميل بالكلية الأمريكية في بيروت لدراسة الطب 1866، ثم سافر إلى فرنسا لإتمام دراسته، وهناك تعرف إلى الاتجاهات الفلسفية والعلمية الذائعة فاستهوته فلسفة فولتير ومونتيسكيو وهول باخ وآراؤهم حول الدين الطبيعي والمعبود الأول، وكتاباتهم النقدية عن الكتاب المقدس وتعاليمه وسفر التكوين، ووجود الإنسان، وأثر الخزافة في ثقافات الشعوب، ثم تعرف إلى أنصار الاتجاه المادي أتباع أوغست كونت، فاستهوته مناقشاتهم حول منشأة الأديان وتطورها وفلسفة دارويت هربرت سبنسر ونظرية التطور و أصل الأنواع والتوالد الذاتي التي نادت بها بوخذر وباستيان، ولم تعجبه الفلسفة المثالية لأنها -في رأيه- مفعمة بالتصورات المجردة والأفكار التي تجمع بين الخيال والواقع، كما أن سعيها لما ينبغي أن يكون لا يختلف في رأيه عن تعاليم الكتاب المقدس لتحقيق السعادة للإنسان في العالم الآخر، ومن ثم قرر البحث عما يحقق السعادة للإنسان على الأرض فوجد أنه العلم الذي ينصب على دراسة الواقع فحسب، وتأثر بتعاليم سان سيمون في حديثه عن الإخاء والمساواة وأهمية الأخذ بالنظام الاشتراكي لتحقيق المساواة بين البشر. كان يسعى إلى نقل المعارف السائدة في عصره من طور التنظير إلى طور الواقع والتطبيق، ثم عاد إلى مسقط رأسه عام 1873، فلم يطب له المقام وسط استبداد رجال الدين وتخلف الرأي العام، فقّرر الهجرة إلى مصر التي كانت تعج بقادة الفكر وزعماء الإصلاح المستنيرين أمثال رفاعة الطهطاوي ويعقوب صنوع ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم. وفي مدينة طنطنة مارس مهنة الطب الوقائي والتقى الأفغاني، ودار بينهما حديث قصير حول تصور الإنسان البدائي للإله، فقال الأفغاني: إن الإنسان البدائي لم يفكر بالإلوهية إلا خوفاً من المجهول أو إعجاباً بما هو كائن وعليه فقد ألّه الإنسان الأول الطبيعة ففطن الأفغاني إلى نزعة شميل المادية ولم يناقشه فيها. وفي عام 1885 انتقل إلى حي الغورية بالقاهرة وافتتح مع بعض رفاقه مركزاً طبياً بالمجان وأسس مع حفني ناصيف جمعية الاعتدال التي اهتمت بنشر الآداب العصرية والأخلاق الاجتماعية في الرأي، كما أصدر شميل مجلة “الشفاء” لينشر الثقافة الطبية، وفي العام 1869 كتب خطاباً مطولاً إلى السلطان عبد الحميد بعنوان “شكوى وآمال” ذكر فيه أن الأمم الناهضة لا تقوم إلا على دعائم ثلاث هي: الحرية والعدالة والعلم وأن شمس المدنيات تأفل بغياب إحدى هذه العمد. وفي العام 1898 تحدث عن آفات الثقافة الشرقية فذهب إلى أن تخلف شعوب بعض البلدان يرجع إلى عشوائية الأنظمة وانحطاط المعارف العقلية وغياب الروح العلمية.
وكل من يتابع شبلي شميل يدرك أنه من المثقفين العرب الطلائعيين الذين لم يسقطوا في ثقافة التكسب المالي والفكري وأحسوا بالحاجة التاريخية إلى الانسلاخ عن الولاء للدولة العثمانية والدعوة إلى اليقظة القومية العربية وإلى تجمع كل العرب بغض النظر عن الانتماء الديني والعرقي، حارب الجهل والتخلف والظلامية والخرافة والتعصب بأشكاله كافة، ووقف ضد الظلم والقهر والاستبداد وانحاز إلى الحداثة والمعاصرة والعلمانية، ودعا إلى تحرير العقول من ضيق الأفق العقلي واحترام حرية المعتقد والفكر والتعبير، وحلم بمستقبل تضيئه أفكار التقدم والحضارة والمدنية والنقد العقلاني والتسامح الديني والسياسي والاجتماعي.
وغني عن البيان أن شبلي شميل آمن بمقولة “الدين لله والوطن للجميع”وطالب بتحقيق مصالحة بين التيارات الفكرية والمذهبية والايديولوجية المختلفة وفق مبادئ العقل والفلسفة والعلم. إنه واحد من ملامح الفكر التنويري ورجالات النهضة الثقافية والفكرية والعلمية العربية الذين ساهموا في المعركة النضالية من أجل إرساء مجتمع الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية ومن الداعين إلى احترام العقل، وقد شكل مع أقرانه من أعلام النهضة العربية مصابيح مشعة في فضاء الثقافة العربية التحريرية والتحررية المتنورة والعقلانية، والنبض في عروق وعصب الوعي العربي والضمير الحي وقراءة الأمل الذي لا ينطفئ.

إبراهيم أحمد