ثقافة

قراءة في ديوان الشاعرة “سهام سليمان” “أسود قان”

ديوانها “أسود قان” يحاول أن يتجاوز السّائد والمألوف في شعرنا الحديث أحياناً، وكيف يكون ذلك من شاعرة أنثى، حيث تتعانق وتتلاقى حول مفهومها الذي يتجلى في الهموم الذّاتية، وتندغم في كونيّة المعاناة ويتراءى لها طرح السُّؤال المعرفي في أتون وحمّى التجربة الشّعريّة، ما بين شاعرٍ وشاعرةٍ، حينئذٍ تترامى الفضاءات وتتماهى في / ثنائيّة / “النُّفور والتّلاقي”
تجربة تكاد أن تكون أبعد من “الواقعيّة المعيوشة ” والكلام المزدحم بشفافيّة التّكثيف، في بنية القصيدة، والدّلالات الماسكة زمام المصالحة، والمصادفة اليوميّة.
تشتغل شاعرتنا سهام سليمان نصوصها الشّعريّة، وتنحو بها على طريقة شعر “الهايكو” اليابانيّة، “قصيدة الومضة” من حيث الدّهشة والاختزال، واللامألوف في إتيان الجملة الشّعريّة، شاعرةٌ مجتهدةٌ، ومواظبةٌ في قراءات شعر “الحداثة / الحداثويّة وما بعدها” وومضاتها ذات حرارةٍ تتألّق برسم ونحت تجربتها، لها لون متمايز عن قصائد لشاعرات أخريات ذات إيحاءات ودلالات، وتلمّ بإتقانٍ من كلِّ بُستانٍ ما تشتهيه رغم أنّها تتعمّد عن قصدٍ أو غير قصدٍ الإطالة، وتتباين السّرديّة الضّجرة، وهي متمكنّة في الوصول إلى الدّهشة وعنصر المفاجأة وهذا ما نراه وقرأناه في ديوانها “أسود قان” تتعمَّد شاعرتنا لغة المشاكسة، فبدل -وهذا المألوف والسَّائد- أن تقول: أحمرُ قانٍ، شاكَسَتْنا وقالت وبكلِّ إصرارٍ وثقةٍ يجب أن أضع عنواناً لمجموعتي هذه تحت اسم “أسود قانٍ” وهذا ما يشدُّ القارئ إلى قراءة هذا المنجز الشِّعري لشاعرتنا.
“لا تصُدّقوا ادّعائي/افتحوا وسادتي الوثيرة/سترون فيها ريش الحمام/انبشوا فراشي/ستجدون أسمال الأحبَّة/احرقوني/ستشمّون رائحة لدائن”  ص122
تجربة شاعرتنا تجربةٌ ساخنةٌ “طازجةٌ” وليس هي في بدايةِ تفتُّحها الشعريِّ، هناك ورودٌ في مساكب القلب، والُّلغة الحاضنة مداها المتخيَّل، وبعض انفراجاتٍ في صمودِ انفعالاتها، ودائماً تكون سيّدة المواقف وهاهي تتكِّىء بارتياح المحارب العائد بزورق حنينه، إلى المرأة الّتي أحبها وأحبَّته، هاهو: عوليس/ أوليس  يعود إلى “بينلوبتهِ” الّتي صَبرت كما يقولون صبر أيّوب، وهي بانتظاره، وهي العارفة بلخّات قلبها أنَّ حبيبها قادم، وعائدٌ لها وإليها مُنتصراً على كلّ الّذين تقدَّموا إليها من الفرسان والأمراء، طالبين يَدَها لكن كان الرّفض والعناد والشّعور الدّاخلي بأنَّها ستلتقي بهِ، ولو لِرَّفة عينْ “الأسطورة”:
“أشْبه بنلوب/ أُحيك سترةً لك في النّهار/ وأنْسلُ خيوطها في الّليل/ لا لكي انتظرك
ولكن لِأتلمّظ  الوقت” ص118
وكما ترويه الأسطورة عن “بينلوبي” كانت ما تحيكه في النّهار، تنْسله في الّليل، وهي تحيكُ لِزوجها وحبيبها “عوليس” كنزةً صوفيّةً، ووعدت طالبي يدها للزواج واشترطت عليهم حين تنتهي من حياكة هذه الكنزة، وعلى هذا المنوال بقيت ردْحاً من الزّمان تحيك وتنسل حتى عاد أخيراً من رحلة الغياب، وعادا من جديدٍ إلى الحب وممارسة الحياة!
والشّاعرة سليمان تجيدُ وتتقن لغة الحالات اليوميّة، ترصد بمنظار حدسها ماذا يخبِّئ لها القدر من مصادفاتٍ مُضيفةً إلى تجربتها حالة من اليقظة والحلم، بسرديّة لطيفة:
“هناك شارع بين مقبرتين/ وربما هي مقبرةٌ واحدة/ شقّها العاقلون/ لكي يفصلوا النّساء عن الرّجال” ص111
حتى في الموت هناك لا مساواة، ولا مقاربات حتى بين الرّجل/ المرأة، وكأنَّها الحالات القبليّة، والهاجس العشائري، تعود من جديد لتزيد الطّين بلَّةً بأن مازال الفرق شاسعاً ما بين الذكر/ الأنثى فمتى تنتهي هذه “المظالم” وتتقلص هذه المعاناة ونحن نعيش حضارة العولمة، وكبْسِ الأزرار؟!
“إِن أصابتكَ النّجوم/ بعدوى الثّآليل/ فلا تتذكر من أرَّقكْ ” ص117
شاعرةٌ شاطرةٌ، وتعرفُ ما تقوله، وتشعرُ بما تعنيه، تسوق القصيدة أمامها كخروف طيِّعٍ، يرغبُ أن ينامَ ويغفو ويحلم بين يديها، وهي تداعب بأصابعها قرنيه الصّغيرين، منتفضاً خوفاً، مبدياً عصيانه، نفوره منها ويروح إلى أسرته “قطيعه” فهاهي أُمُّهُ مُقْبلةٌ عليهِ تمسح وجهه، وتعطيه حَلْمة ضَرعِها ليرضع حتى الشَّبع، بعدها يروح “يُنَطْنِطُ” ثائغاً يُداعب خِرافَ جيلهِ، وأبناءَ عشيرته؟!
” أنا نعجةٌ ترعى الكلأْ/ أخافُ من الذّئب/ ومن الرّاعي/ في آنٍ معاً”  ص54
“الحب لا ينبتُ في الأرض القاحلة/ وإن أعشب عرضاً/ فلن تكون له جذور” ص80
وهاهي الشّاعرة بِنصوصها المزحومةِ بالتَّكثيف، والهتافات من الصُّور الدَّاهشة، حيث لا تبْخلْ على القارئ باستراحاتٍ مُكيَّفةٍ بالوجدانيّات، والذّوبانِ المُستحب بين الذّاتي والخارجي مع هبوب ريح تامُّليَّةٍ “شرقيَّةٍ” قارصةٍ في صباحات نيسان، تجربتها ناضجة وإن بّدَرتْ بعض الرّموز فقد تكون “خجولةٌ” في فضاءات مكنوناتها الشِّعريَّة:
“أنا يا صاحبي/ سأموتُ عنك وعني/ وأمشي في الجنازة/ مرتين” ص96

* الكتاب: أسود قان
* المؤلف: سهام سليمان
* دار الينابيع ـ سورية 2010
khudaralakari@hotmail.com
خضر عكاري