ثقافة

بدويّ الجبل الصاخب الهادئ

قيس محمـّد حسين

حياته امتلأت بالصخب والحركة والمرارة، فشعرٌ وثقافة ونضال، تخفٍّ عن عيون المحتلّ الفرنسي، فسجن، ثم إفراجٌ لحداثة سنـّه، شعره حمل ألغازاً على مستوى المعنى وليس اللـّفظ أو الصورة، شبـّهه النـّقاد بالمتنبي، كما شبـّهوا لويس أراغون بهيغو، تغنى بالإنجازات الوطنية، ورثى المناضلين، حتى أنـّه رثى المناضل ماك سويني بقصيدة رائعة وشَمِت بفرنسا حين احتلـّتها ألمانيا
(ضغينةٌ تتنزّى في جوانحنا\ ما كان أغناكمُ عنها وأغنانا\ إنّي لأشمتُ بالجبّارِ يصرَعُهُ\ طاغٍ، ويرهقهُ ظُلماً وعدوانا)
تشابهت هواجسه مع المتنبي في الإحباط لما يشهده العرب من تشرذم وهيمنة خارجيـّة، لكن البدوي لم يتزلـّف لكافور ولا حتى لسيف الدّولة. في شعر البدوي نلمس عنصر الدّهشة على مستوى الصورة الشعرية، والحيرة على مستوى المعنى، ولا يعطي شعر البدوي فكرة أو معلومة، بل يفتح أفقاً يحرّك الأفكار من خلال مواءمته بين الإيحاء والعقل، وقد أفاد الشعراء – حتـّى الكبار منهم– من شعر البدوي، منهم من أخذ نهلة من طريقته الشـّعريـّة ولغته، ومنهم من أفاد من الصورة، ومن شعر البدوي الذي أثـّر في الشعراء فأكبـّوا عليه نهلاً واقتباساً نذكر:
(أنا الحزن شخصٌ أروح وأغدو\ ومسائي من الأسى والبكورُ) وكذلك ( فما يـُشتهى خدّاكِ إلاّ لأنـّني \ تركتُ على خدّيكِ إثمي وأوزاري \ وما أسكرت عيناكِ إلاّ لأنـّني \ سكبتُ بجفنيكِ الغويـّين أسراري \ أينكرني حسْنٌ خـَلقتُ فتونـَهُ \ فيخنقني عطري وتحرقني ناري) ومن الصـّور الشعرية التي تردّدت كثيراً (عشـّان لا للطـّير بل للهوى\ عشـّانِ بل للطـّيرِ قارورتانِ). ومما كتبه البدوي ويحمل الدّهشة بل الحيرة: (ستنطوي الجنـّةُ النـّشوى فلا ملكاً\ ولا نعيماً ولا حوراً وولدانا\ يفنى الجميعُ ويبقى الله منفرداً\ فلا أنيس لنور الله لولانا\ لنا كلينا بقاءٌ لا انقضاء له\ وسوف يشكو الخلود المرّ أبقانا)
ولا يتقيد البدوي بوحدة القصيدة، فالأبيات الأخيرة تأتي خاتمة لقصيدة غزليـّة، وهو يتأثر بالمدرسة الإحيائيـّة التي روّج لها محمود سامي البارودي وشوقي وغيرهم، تلك المدرسة التي رآها البعض ضرورة لتأسيس المرحلة الجديدة ورآها آخرون سبباً من أسباب التـّخلـّف في الأدب، إلاّ أن البدوي من حيث البعد المعنوي لقصائده كان منفتحاً، فهو ليس وصفياً، وحتـّى قصائد المديح لديه تحمل أبعاداً وهواجس إنسانيـّة رائعة، فرُؤاه وتخيـّلاته كانت الأمضى وطريقة تناوله للآلام مختلفة ومتقدّمة عن طرائق من تلاه وتأثـّر به، ومن سبقه، فهو لا يصوّر ألماً محضاً بطريقة مبالغ فيها دأبها تقديم جرعات الألم والخوف والرعب (على طريقة أفلام الرّعب) بل طريقة البدوي في تناول الحزن تحمل فلسفته الرائعة (لم أضقْ بالهمومِ قلباً وهل ضاق\ بشتـّى عطوره البستانُ\ والهموم لحسان تفعل في الأنفس\ ما تفعله الغواني الحسان) هو لا يتخذ موقف المتنبي الذي تمرّس بالآفات حتى تركها تتساءل إذا ما مات الموت أم ذعر الذّعر، ولا موقف نديم محمد الذي يجرّ جثـّة نفسه إنـّما البدوي يدلـّلُ أحزانه ويرحب بها. وللقبه قصة وسبب: (يقرأ النّاس للشّعراء المعروفين، ولست منهم، وهذا اللّقب يدفعهم لقراءة الشّعر للشّعر، في ديباجتك بداوة، وأنت ابن الجبل) هذا ما قاله يوسف العيسى محرّر جريدة ألف باء للشاعر أحمد سليمان الأحمد معللاً تذييل قصائده ببدوي الجبل، هذا اللّقب الذي طغى على اسم الشاعر، فالبدوي يعتبر من الرّوّاد الأوائل للكلاسيكيّة الجديدة، يمتاز شعره بجدّة المعاني والإدهاش والتّفنّن بالألفاظ، لم تأخذه دعوات الحداثة التي شاعت مطلع شبابه، وعندما قال البدوي (أنا أبكي لكلِّ قيدٍ فأبكي \ لقريضٍ تغلُّهُ الأوزانُ) لم يكن جادّاً في ذلك بل لعلّه كان أميل للرّأي القائل (ليست الحرّيّة في الشّعر خروجٌ عن الوزن، بل هي التّمكّنُ منهُ وتطويعهُ)، كما أن للبدوي نظرة لشعره تحاكي نظرة المتنبّي وآخرون لإنتاجهم ( الخالدان- ولا أعدُّ الشّمسَ- شعري والزّمانُ)
ركّز البدوي على ترف الرّوح أي الجمال، ورأى أنّ الشّعر يجب أن يكون مستساغاً وجاذباً لكي يكون مؤثّراً وليقوم بدوره الثّقافيّ والإنسانيّ. طغت الأحزان على البدوي وكان مؤالفاً للطّبيعة وهكذا فقد سار على منوال الرّومانسيّين في نواحٍ عديدةٍ، كما كان خلاّقاً في إدهاشهِ من خلال التّناول غير المعتاد بل والغريب لمعاني الحزن والفرح والألم وغيرها، ومن خلال الإلباس والتّشخيص وخلق رابط بين شيئين لا رابط بينهما بالأصل إلاّ ما تبتدعه العبارة الشّعريّة، كل ما سبق كان سبباً لأن ينهل فحول شعراء العصر الحديث من معين البدوي وقد كتب البدوي أربعة آلاف وأربعمئة بيت من الشّعر على خمس وتسعين قصيدة تميّزت بحملها لقضايا وطنه الكبير وقضايا المعاناة والألم والظّلم، وفق تخيّلاته ورؤاه الخاصّة.