ثقافة

“شعر التروبادور” صورة من التراث العربي في الأندلس

ارتقت الحضارة الإنسانية في تطورها من خلال الأخذ والعطاء والتأثير المتبادل. ومن الثابت تاريخيا أيضا إن الشرق كان مهد الحضارات، فالحضارة الفرعونية في مصر والبابلية والآشورية في العراق وحتى الحضارة اليونانية كانت متأثرة في فلسفاتها ودياناتها بالحضارة الفرعونية، فقد عاشت أوروبا عصورا من الظلام حتى هبت عليها رياح الثقافة العربية من ثلاثة مصادر: الأول القوافل التجارية التي كانت تغدو وتروح بين آسيا وأوروبا الشرقية والشمالية عن طريق بحر الخزر أو عن طريق القسطنطينية وكانت هي الطريق التي وصلت منها الأخبار إلى البلاد الاسكندينافية. الثاني الأماكن التي احتلها الصليبيون وعاشوا فيها زمنا طويلا بين سورية ومصر وسائر الأقطار الأخرى والتي امتدت قرنين من الزمان حتى سقوط أخر معقل لهم على أيدي المماليك. والثالث الأندلس التي فتحها العرب سنة 711م واستمر الوجود العربي تسعة قرون على الأقل وهي مدة كافية لأن يترك العرب بصماتهم في اسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا، وقد ظلت اسبانيا معبرا انتقلت من خلاله الحضارة العربية الإسلامية إلى أوروبا. الرابع: جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا حيث اجتاز العرب إفريقيا من تونس إلى جزيرة صقلية.
انتقلت هذه الحضارة بكافة روافدها الثرية في هذا الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغط في ظلمات العصور الوسطى، وأعطاها العرب علومهم في الأدب والفلك والكيمياء والرياضيات والعمارة وغيرها فلم يخرج العرب من جزيرتهم خاليي الوفاض أو مجرد غزاة ، إنما خرجوا إلى رحاب هذا العالم الفسيح يحملون ثروة هائلة من أدبهم لغة خطاب وشعرا وحكما وأمثال ..وكانت الحضارة العربية تحمل معها أيضا إلى جانب التأثيرات العربية روافد أخرى، أولها رافد مدرسة جندتبا سبور الزرادشيتيه التي اختلطت فيها ثقافة اليونان وعلومهم بثقافة الفرس والهند ورافد مدرسة حران الوثنية التي كانت مركزا للثقافة الإغريقية منذ عصر الإسكندر الأكبر، وعندما نتحدث عن الأدب العربي وخاصة الشعر الذي كان عربيا خالصا لم يتأثر بآداب حضارات سابقة حيث نبت وترعرع ونما في الصحراء النجدية نبتا أصيلا اعتز به العرب وكان هو فنهم الأول. وعندما أعطى العرب أدبهم لأوروبا أعطوه شعرا عربيا خالصا إذ لم ينتقل الشعر إلى أوروبا عن طريق الترجمة إنما عبر انصهار سكان جنوب غرب فرنسا وجنوب اسبانيا وصقلية في بوتقة الحضارة العربية، واقترنت بموضوعات الأدب العربي أسماء طائفة من عباقرة الشعر في أوروبا خلال القرن الرابع عشر وثبتت الصلة بينهم وبين الثقافة العربية منهم بوكاشيو ودانتي وبترارك الايطاليين وشوسر الانكليزي وسرفانتس الاسباني. وقال دانتي إن الشعر الايطالي ولد في صقلية وشاع نظم الشعر بالعامية في إقليم بروفانس “جنوب فرنسا” فانتشر من ذلك الإقليم الشعراء الجوالون الذين يعرفون باسم التروبادور الذين اقتبسوا معاني وأفكار ومبادئ كانت غربية على بيئتهم حيث ظهر فن أدبي جديد بين شعراء فرنسا ودول أوروبا هذا الفن يختلف اختلافا تاما عن الشعر الذي تعودوا عليه قبل ذلك الوقت كما اقتبسوا فن القافية من العرب.
ومصطلح التروبادور troubadour  مأخوذ من كلمة trobr  في اللغة الفرنسية القديمة وتحمل معنى من ينظم الشعر المبتكر في حين يرى بعض المستشرقين إن مصطلح تروبادور  مشتق من الكلمة العربية “طرب” مع بعض التحريف وأضيف إليها المقطع اللاتيني “dor” أو “” adour الدال على اسم الفاعل، وهذا هو التفسير المنطقي الأكبر حيث نجد كثيرا من الآلات الموسيقية تلفظ بألفاظها العربية مع تغير طفيف في المخارج كما هو الأمر لكلمة “العود “luta”  وقيثارة “guitar” وربابة “rebee” وقد أشار كثير من الباحثين إلى انه يزيد عن 400 كلمة عربية موجودة في قواميس اللغة الاسبانية انتقلت بعد ذلك إلى اللغات الأوروبية. أما شعراء التروبادور فقد عرفوا في العصور الوسطى أواخر القرن الحادي عشر ميلادي وهم الشعراء الجوالون ينتقلون من قصر إلى قصر ومن بلاط إلى بلاط جنوبي فرنسا “في البدايات” ينشدون أغاني الحب ما شاء لهم الإنشاد وذلك على نمط الموشحات الأندلسية والأزجال العربية المغاربية التي انتشرت في القرن التاسع الميلادي. فمن العرب تعلمت أوروبا الغزل العفيف وتقديس المعشوقة على غرار الشعراء العذريين والمتصوفة وكذلك أدب التشبيب. لقد بلغت المفردات التي أضيفت إلى اللغة الاسبانية والبرتغالية ما يملأ معجما فقد قام مستشرق اسباني بإثبات أن شعر التروبادور مستمد من التراث العربي في الأندلس.
إبراهيم أحمد